الخميس. أكتوبر 17th, 2024

قراءة في نظرية الجندر.. بين التفكيك وإعادة البناء

نظرية الجندر نشأت في إطار الحركات النسوية التي تسعى لفهم الأدوار الجندرية وكيفية تشكّلها في المجتمعات. تعتبر هذه النظرية أن الجندر (النوع الاجتماعي) ليس مجرد تقسيم بيولوجي بين الذكر والأنثى، بل هو بناء اجتماعي ناتج عن تفاعلات معقدة بين الثقافة والسياسة والاقتصاد. تختلف الأدوار الجندرية بناءً على السياقات التاريخية والاجتماعية، وغالبًا ما يتم استخدامها كأداة للهيمنة والسيطرة، خاصة ضد النساء والأقليات الجندرية.

تقوم نظرية الجندر على تفكيك هذه الأدوار والمفاهيم التي تفرضها المجتمعات، بهدف إعادة النظر فيها وتأسيس أنظمة أكثر عدالة ومساواة. يُعد هذا التفكيك مرحلة أساسية في الجهود النسوية لتحدي الأنماط التقليدية السائدة وإعادة بناء مفاهيم جديدة مبنية على الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية.

التفكيك هو الخطوة الأولى التي تقوم بها نظرية الجندر في مواجهة الأدوار التقليدية التي تفرضها المجتمعات. تستند هذه العملية إلى كشف العلاقة بين الجندر والسلطة. غالباً ما يُستخدم الجندر لتبرير تسلسل هرمي قائم على تقسيم غير عادل للعمل والسلطة بين الجنسين. الأدوار الجندرية المحددة مسبقاً تُقيد حريات الأفراد وتحدد لهم مسارات محددة مبنية على جنسهم، وهو ما يعزز الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي.

من خلال التفكيك، تكشف النظرية أن التمييز الجندري ليس طبيعيًا أو بيولوجيًا، بل هو نتيجة لعمليات اجتماعية وثقافية تاريخية. على سبيل المثال، العمل المنزلي يعتبر “وظيفة أنثوية” ليس لأنه يتطلب خصائص بيولوجية محددة، بل لأنه تم فرضه تاريخيًا على النساء لأسباب تتعلق بتقسيم العمل القائم على الجندر. هكذا يُستخدم التفكيك لتفكيك الأدوار والمفاهيم التي تعزز السلطة الذكورية وتهمّش النساء.

إعادة البناء.. ما بعد التفكيك

بينما يمثل التفكيك نقدًا للنظام الجندري التقليدي، فإن إعادة البناء تمثل المرحلة التالية، التي تهدف إلى إعادة صياغة المفاهيم الجندرية بطريقة تتجاوز التقسيمات التقليدية. إعادة البناء تتطلب إيجاد بدائل للمفاهيم الجندرية السائدة التي تُقيّد الأفراد بناءً على جنسهم. بدلاً من اعتبار الجندر قيدًا، تقترح النسوية في إعادة البناء أن يتم النظر إليه كمساحة مفتوحة للهوية الفردية والحرية الذاتية.

في إطار إعادة البناء، يمكن للفرد أن يحدد هويته الجندرية بطريقة تتجاوز التقسيم الثنائي بين “الذكر” و”الأنثى”. الحركات النسوية المعاصرة تدعو إلى تبني أشكال متعددة من الهويات الجندرية، مثل الهويات غير الثنائية، التي تعترف بتنوع التجارب الجندرية. هذا التوجه يُعتبر جزءًا من الجهود الرامية إلى تحقيق المساواة الجندرية وتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يتم منح الأفراد الحق في تحديد هوياتهم وتعبيرهم الجندري بناءً على رغباتهم الشخصية بدلاً من التوقعات المجتمعية.

المفكرة النسوية، أمل يحياوي، ترى خلال حديثها لـ”شُبّاك” بأن الأدوار الجندرية التي تفرضها المجتمعات على النساء ليست فقط نتيجة لبناء اجتماعي، بل هي أداة للقمع والتحكم في المرأة عبر التاريخ. كما تنتقد بشدة العلاقة بين الدين والسلطة الذكورية، وتعتبر أن الأديان استخدمت لفرض أدوار جندرية محددة على المرأة تهدف إلى إبقائها في دائرة السيطرة المنزلية والمجتمعية. في رأيها، التحرر الحقيقي للمرأة لا يمكن أن يتحقق دون تفكيك هذه الأدوار المتأصلة في الثقافة والدين. كما شددت يحياوي على أن التفكيك الجندري ليس هدفاً بحد ذاته بل هو وسيلة للوصول إلى العدالة الاجتماعية الكاملة والمساواة بين الجنسين.

تعتقد يحياوي أن إعادة البناء يجب أن تشمل إعادة النظر في جذور القيم الأخلاقية والاجتماعية، لتشمل جميع الأفراد وتحررهم من القيود التقليدية التي فرضتها المجتمعات الأبوية. الحل من وجهة نظرها يتمثل في توحيد النضالات النسوية مع القضايا الاجتماعية والاقتصادية الأوسع، مما يتيح بناء مجتمع أكثر عدالة.

نقد النظام البطريركي.. العلاقة بين الجندر والسلطة

من الجوانب الأساسية لنظرية الجندر هو النقد الموجه للنظام البطريركي الذي يستخدم الجندر كأداة للهيمنة والسيطرة. النظام البطريركي يعتمد على تقسيم الأدوار بين الجنسين بطريقة تجعل النساء دائمًا في موقف أدنى مقارنةً بالرجال. يتم تعزيز هذه الفكرة من خلال الخطابات الدينية، الثقافية، والقانونية التي تجعل من هذه الأدوار جزءاً من “النظام الطبيعي” للمجتمع.

نظرية الجندر تقوم بتحدي هذه الأفكار من خلال فضح هذه الأنظمة، وكشف أن السلطة الذكورية ليست حتمية أو طبيعية، بل هي نظام اجتماعي مبني على السيطرة والإقصاء. هذا النظام يسعى إلى تعزيز هياكل السيطرة الذكورية على النساء والأقليات الجندرية، مما يجعل من الضروري فضح هذه الهياكل واستبدالها بأنظمة تعزز المساواة والعدالة الجندرية.

هدى الساعدي، الناشطة النسوية التونسية، تعتقد خلال حديثها لـ”شُبّاك” أن النظام الاجتماعي الذي يفرض على النساء أدوارًا معينة ويحدد لهن مسار حياتهن هو نظام يعيق تقدم المجتمع ككل. كذلك تعتبر أن تحرير النساء من هذه الأدوار يجب أن يبدأ من التعليم وتوسيع دائرة الخيارات المتاحة لهن في الحياة العامة والخاصة.

تدعم الساعدي فكرة أن إعادة بناء الجندر تتطلب تفكيك المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي ترسخ التمييز بين الجنسين. في رأيها، المساواة لا تتحقق فقط بمنح النساء حق العمل والتعليم، بل بتغيير الثقافة الاجتماعية التي تنظر إلى النساء كمجرد “أدوار داعمة” في المجتمع. تشدد الساعدي على أن إعادة البناء هذه يجب أن تكون شاملة، وتضم الفئات الأقل حظاً في المجتمع، بما في ذلك النساء من الطبقات الدنيا، لخلق تغيير جذري في التوزيع الاجتماعي والثقافي.

الجندر والعرق.. تقاطع القمع

إحدى المساهمات الهامة لنظرية الجندر هي فهم العلاقة بين الجندر والعوامل الاجتماعية الأخرى مثل العرق والطبقة الاجتماعية. الحركات النسوية المعاصرة، خاصة الحركة النسوية السوداء، تسلط الضوء على أن الجندر لا يمكن فهمه بشكل منفصل عن العرق والطبقة. يتم التمييز ضد النساء الملوّنات والأقليات العرقية بطرق أكثر تعقيدًا، حيث تتداخل الأبعاد الجندرية والعرقية لتشكل أشكالًا متعددة من القمع.

هذا الفهم المعمق للعلاقات بين الجندر والعرق يوضح أن النضال النسوي يجب أن يكون شاملاً، بحيث يركز ليس فقط على النساء ككتلة واحدة، بل على الأفراد الذين يواجهون تمييزًا متعدد الأبعاد. وهذا يتطلب توسيع نطاق التحليل النسوي ليشمل جميع الأبعاد الاجتماعية التي تؤثر على تجارب الأفراد.

تحديات الحركات النسوية المعاصرة

على الرغم من النجاحات التي حققتها الحركات النسوية والجندرية، إلا أن التحديات ما زالت قائمة. لا تزال الهياكل التقليدية تعزز الأدوار الجندرية المفروضة على النساء، مما يؤدي إلى تهميشهن في مجالات السياسة، الاقتصاد، والثقافة. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر مقاومة النظام الجندري المحافظ أمرًا معقدًا، خاصة في المجتمعات التي تتشبث بالأدوار التقليدية وترى في الجندر أحد أهم أدوات الحفاظ على الهوية الاجتماعية.

واحدة من أكبر التحديات التي تواجه الحركات النسوية والجندرية اليوم هي مقاومة محاولات التراجع عن المكاسب التي تحققت. هذا التحدي يتجلى بشكل خاص في المجتمعات التي تشهد صعودًا للتيارات المحافظة التي تسعى لإعادة فرض الأنماط الجندرية التقليدية وإلغاء الحريات التي اكتسبتها الحركات النسوية.

نظرية الجندر تمثل واحدة من أهم الأدوات الفكرية التي قدمتها الحركات النسوية لفهم القمع الهيكلي وتعزيز التحرر الفردي والجماعي. من خلال التفكيك وإعادة البناء، تسعى هذه النظرية إلى تحرير الأفراد من القيود الجندرية التقليدية وتوفير مساحات أوسع للتعبير عن الهوية الذاتية. هذا الجهد يتطلب استمرارية في مواجهة التحديات وتحقيق التحولات الثقافية والسياسية التي تضمن تحقيق العدالة الجندرية.

في النهاية، يتضح أن النضال الجندري ليس مجرد معركة لتحرير النساء فقط، بل هو نضال لتحرير الجميع من القيود الثقافية والاجتماعية التي تعيق تطور الإنسانية ككل.

Related Post