Spread the love

في ظل الانتشار المتزايد للبلاستيك في حياتنا اليومية، لم يعد التلوث البلاستيكي مقتصرًا على تهديد المحيطات والتنوع البيئي، بل بدأ يؤثر بشكل خطير على صحة الإنسان، وبالأخص على الخصوبة البشرية. تشير دراسات علمية حديثة إلى أن المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع البلاستيك قد تكون مسؤولة عن انخفاض معدلات الخصوبة عالميًا، ما يهدد بحدوث أزمة ديموغرافية غير مسبوقة في المستقبل. فكيف يحدث ذلك؟ ولماذا لم تدق الحكومات والمنظمات الصحية ناقوس الخطر حتى الآن؟

لا يقتصر وجود البلاستيك على الزجاجات والعبوات التي نستخدمها يوميًا، بل يتسرب إلى بيئتنا الداخلية بطرق غير متوقعة. مع مرور الوقت، تتحلل المنتجات البلاستيكية إلى جزيئات صغيرة تُعرف بـ”الميكروبلاستيك”، التي تتسلل إلى الماء والغذاء وحتى الهواء الذي نتنفسه. هذه الجزيئات لا تُرى بالعين المجردة، لكنها باتت منتشرة في كل مكان، حيث كشفت دراسات علمية عن وجود ميكروبلاستيك في دم الإنسان، وحتى في المشيمة لدى الأمهات الحوامل، مما يعني أنها قد تصل إلى الأجنة قبل الولادة.

الأخطر من ذلك أن البلاستيك لا يعمل بمفرده، بل يحتوي على مئات المواد الكيميائية التي تُستخدم لإكسابه خصائص معينة، مثل المرونة أو الصلابة أو مقاومة الحرارة. بعض هذه المواد تُعرف بكونها “معطلات الغدد الصماء”، أي أنها تتداخل مع التوازن الهرموني في الجسم، ما قد يؤدي إلى اضطرابات في الجهاز التناسلي للرجال والنساء.

انخفاض الخصوبة العالمية: هل البلاستيك هو السبب؟

تشير الإحصاءات العالمية إلى أن معدلات الخصوبة البشرية تشهد تراجعًا ملحوظًا خلال العقود الأخيرة، حيث أظهرت دراسة نشرتها جامعة “ماونت سيناي” في نيويورك أن متوسط عدد الحيوانات المنوية لدى الرجال انخفض بأكثر من 50% منذ سبعينيات القرن الماضي. هذا الانخفاض لا يرتبط فقط بالعوامل الوراثية أو نمط الحياة، بل بات يُعزى بشكل متزايد إلى التعرض المستمر للمواد الكيميائية الموجودة في البلاستيك.

النساء أيضًا لم يكنّ بمنأى عن هذه المخاطر، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن التعرض المزمن لمركبات مثل “الفثالات” و“البيسفينول A”، الموجودة في الزجاجات البلاستيكية وعبوات الطعام، قد يسبب اضطرابات في الدورة الشهرية، ويزيد من خطر الإصابة بالعقم، بل وقد يؤدي إلى مضاعفات أثناء الحمل.

يقول الدكتور باسم القادري، أستاذ الصحة العامة بجامعة بيروت، إن “المواد الكيميائية الموجودة في البلاستيك يمكن أن تتداخل مع عمل الهرمونات التناسلية، ما يؤدي إلى انخفاض مستويات التستوستيرون لدى الرجال، وزيادة معدلات الإجهاض واضطرابات الطمث لدى النساء. التأثيرات ليست آنية، بل تراكمية، مما يعني أن الأجيال القادمة قد تكون أكثر تأثرًا بهذه المشكلة إذا لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة”.

هل نحن أمام أزمة ديموغرافية غير مسبوقة؟

في ظل استمرار التعرض للملوثات البلاستيكية، يحذر بعض الباحثين من أن البشرية قد تكون على وشك مواجهة أزمة ديموغرافية حقيقية. انخفاض معدلات الخصوبة لا يؤثر فقط على الأفراد، بل قد يغير التوازن السكاني في بعض الدول، مما يؤدي إلى شيخوخة سكانية متسارعة، وزيادة الضغط على الأنظمة الاقتصادية والصحية.

بعض الدول بدأت بالفعل تعاني من هذه المشكلة، حيث تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا تسجل معدلات ولادة أقل من معدل الإحلال السكاني، ما يهدد بحدوث تراجع سكاني كبير خلال العقود القادمة. ومع ازدياد الأدلة العلمية على دور البلاستيك في هذه الظاهرة، تزداد المطالب بوضع قيود صارمة على استخدام المواد البلاستيكية ذات التأثيرات الهرمونية.

يؤكد الدكتور أمجد الناصري، الباحث في علم السموم البيئية بجامعة عمان، أن “التأثيرات الصحية للبلاستيك ليست مجرد نظرية، بل أصبحت واقعًا مثبتًا بالأدلة العلمية. السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم ليس ما إذا كان البلاستيك يؤثر على الخصوبة، بل كيف يمكننا تقليل هذا التأثير قبل فوات الأوان؟”.

هل يمكن الحد من التأثيرات السلبية للبلاستيك على الخصوبة؟

رغم المخاطر المتزايدة، لا يزال بالإمكان اتخاذ خطوات للحد من تأثير البلاستيك على الصحة العامة، لكن ذلك يتطلب جهودًا متكاملة على المستوى الفردي والحكومي. بعض الدول بدأت بالفعل في حظر بعض المركبات الكيميائية الضارة في المنتجات البلاستيكية، كما فرض الاتحاد الأوروبي قيودًا على استخدام “البيسفينول A” في عبوات الأطفال، لكن هذه الإجراءات لا تزال محدودة مقارنة بحجم المشكلة.

على المستوى الشخصي، يمكن للناس تقليل تعرضهم للملوثات البلاستيكية من خلال تجنب استخدام عبوات الطعام البلاستيكية، خاصة عند تسخين الطعام، حيث أن الحرارة تزيد من تسرب المواد الكيميائية إلى الغذاء. كما يُنصح باستخدام الزجاج أو الفولاذ المقاوم للصدأ كبدائل للبلاستيك في تخزين المشروبات والأطعمة.

أما على المستوى الصناعي، فيتوجب على الشركات الاستثمار في تطوير بدائل أكثر أمانًا للبلاستيك، بحيث تكون خالية من المواد الكيميائية المعطلة للهرمونات. بعض الشركات الناشئة بدأت بالفعل في تطوير “البلاستيك الحيوي” المصنوع من النباتات، والذي يتحلل بشكل طبيعي ولا يحتوي على المركبات السامة الموجودة في البلاستيك التقليدي.

يقول الدكتور وائل حميدان، الخبير في علم المواد بجامعة العلوم التطبيقية، إن “التحول إلى بدائل بلاستيكية أكثر أمانًا لم يعد رفاهية، بل أصبح ضرورة بيئية وصحية. المشكلة ليست فقط في تقليل النفايات البلاستيكية، بل في الحد من التأثيرات الكيميائية التي يمكن أن تؤثر على صحة البشر لعقود قادمة”.

مع تزايد الأدلة العلمية حول مخاطر البلاستيك على الخصوبة البشرية، يصبح من الضروري اتخاذ إجراءات جادة للحد من انتشاره وتقليل تأثيراته السلبية. إذا استمر الاعتماد المكثف على البلاستيك دون رقابة، فقد نجد أنفسنا أمام واقع جديد يتمثل في انخفاض معدلات الإنجاب بشكل حاد، ما قد يؤدي إلى تغيرات ديموغرافية جذرية لم يشهدها العالم من قبل.

السؤال المطروح اليوم ليس فقط كيف نتخلص من النفايات البلاستيكية التي تلوث البحار والمحيطات، بل كيف نحمي أنفسنا وأجيالنا القادمة من تأثيراته الصحية الخطيرة. بينما تسابق الأبحاث الزمن لفهم مدى عمق المشكلة، يبقى اتخاذ الخطوات العملية هو العامل الحاسم في تحديد ما إذا كان البلاستيك سيظل جزءًا من حياتنا اليومية، أم أن البشرية ستتخذ القرار الشجاع بالتخلص من هذا الخطر الخفي قبل فوات الأوان.

error: Content is protected !!