لم يكن سقوط بغداد عام 1258 مجرد اجتياح عسكري قاده المغول، بل كان تتويجاً لسلسلة طويلة من الأخطاء السياسية والانقسامات الداخلية والخيانات التي جعلت من عاصمة الخلافة العباسية هدفاً سهلاً لغزو لم يكن ليحدث بتلك السهولة لولا أن المدينة كانت قد انهارت بالفعل من الداخل قبل أن يصل إليها جيش هولاكو. لم يكن المغول هم السبب الوحيد في الكارثة، بل كان هناك لاعبون في الظل، من داخل بغداد وخارجها، ساهموا بطرق مختلفة في جعل واحدة من أعظم حواضر العالم الإسلامي تتحول إلى رماد في أيام قليلة.
كيف تآكلت الدولة العباسية من الداخل؟
كانت الخلافة العباسية قبل سقوطها قد فقدت منذ زمن طويل سيطرتها الفعلية على معظم أراضيها. تحول الخليفة من قائد سياسي وعسكري إلى مجرد رمز ديني، بينما أصبحت السلطة الحقيقية في أيدي الوزراء، وقادة الجيوش، والأمراء المحليين الذين استقلوا بحكم مناطقهم، غير مكترثين بما يحدث في بغداد. أصبح بلاط الخليفة مستنقعاً للصراعات الداخلية، حيث تنافس كبار القادة على النفوذ، وأصبح الفساد مستشرياً في كل مفاصل الدولة. كانت هذه الأوضاع هي الأرضية التي جعلت سقوط بغداد أمراً محتوماً، حتى قبل أن يفكر هولاكو في غزوها.
في قلب هذه الأزمة كان الخليفة المستعصم بالله، الذي اشتهر بضعف شخصيته وانقياده الكامل لرجال بلاطه، خاصة وزيره ابن العلقمي، الذي لعب دوراً غامضاً في الأحداث التي أدت إلى الكارثة. كان المستعصم بالله غير مدرك لحجم الخطر المحدق بالدولة، ولم يتخذ أي إجراءات حقيقية لوقف الانهيار العسكري والسياسي الذي كانت بغداد تعاني منه. اعتمد بشكل أعمى على نصائح وزيره، الذي تشير العديد من المصادر التاريخية إلى أنه كان يعمل سراً لصالح المغول، أو على الأقل كان يرى في سقوط الخلافة فرصة لتغيير ميزان القوى في المنطقة لصالح القوى الشيعية التي كانت مهمشة آنذاك. كان ابن العلقمي هو من دفع باتجاه تقليص الجيش العباسي من أكثر من مئة ألف مقاتل إلى بضعة آلاف فقط بحجة تخفيف النفقات، تاركاً المدينة بلا دفاعات حقيقية في مواجهة جيش المغول الجارف.
كيف خانت القوى الإقليمية بغداد؟
لم تكن بغداد محاصرة فقط من قبل المغول، بل كانت معزولة سياسياً عن محيطها الإسلامي، حيث تخلت القوى الإقليمية عن دعمها في لحظة مصيرية. لم يكن حكام الشام والمماليك في مصر راغبين في التدخل لإنقاذ الخلافة، لأنهم كانوا يرون في ضعف العباسيين فرصة لتعزيز نفوذهم الخاص. فضّل أمراء الشام الوقوف موقف المتفرج، متحججين بأنهم غير قادرين على مواجهة المغول دون دعم قوي، بينما كانت الدولة المملوكية في مصر لا تزال في طور بناء قوتها، ولم تكن مستعدة بعد للمواجهة الكبرى مع المغول، التي ستأتي بعد عامين فقط في معركة عين جالوت.
من جهة أخرى، لعبت بعض القوى المسيحية في المنطقة دوراً مباشراً في دعم هولاكو ضد بغداد، مثل مملكة أرمينيا الصغرى، التي كانت ترى في الغزو المغولي فرصة للانتقام من المسلمين، بعد قرون من الحروب الصليبية الفاشلة. كذلك، لم تكن الإمبراطورية البيزنطية بعيدة عن هذه المعادلة، حيث فضّلت أن ترى بغداد تسقط في أيدي المغول على أن تبقى مركزاً للقوة الإسلامية. في هذه اللحظة الحاسمة، لم تكن بغداد تواجه المغول وحدهم، بل كانت تقف وحيدة في وجه تحالف غير معلن من القوى التي رأت في سقوط الخلافة فرصة لإعادة رسم خريطة المنطقة لصالحها.
كيف استغل المغول هذا الضعف؟
كان هولاكو قائداً داهية أدرك أن أكبر نقاط قوة جيشه لم تكن في العدد أو السلاح فقط، بل في استخدام الحرب النفسية والتخويف قبل القتال الفعلي. أرسل رسائل متكررة إلى الخليفة المستعصم بالله، يطالبه بالخضوع والاستسلام، مهدداً بأن أي مقاومة ستعني دماراً شاملاً للمدينة. في البداية، تجاهل الخليفة هذه التهديدات، ظناً منه أن بغداد لا تزال تمتلك من القوة ما يكفي لردع الغزو، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً. عندما بدأ الهجوم الفعلي، لم يكن هناك جيش حقيقي قادر على التصدي، ولم تكن هناك خطة دفاعية واضحة، حيث وجد أهل بغداد أنفسهم في حالة من الفوضى المطلقة، بينما كان قادة المدينة مختلفين حول كيفية التصرف.
خلال أيام قليلة، كانت أبواب بغداد قد فُتحت أمام الغزاة، بعض المصادر تقول إن ذلك تم بالخيانة، حيث يُقال إن بعض القادة داخل المدينة تواطؤوا مع المغول، إما خوفاً أو طمعاً في النجاة. كانت المجازر التي تلت سقوط المدينة واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ، حيث لم ينجُ أحد من بطش المغول، سواء من العلماء أو الفقهاء أو عامة الناس. دُمّرت المكتبات، أُحرقت المساجد، أُلقيت كتب بيت الحكمة في نهر دجلة حتى تغيّر لون مياهه من الحبر، في مشهد يعكس النهاية الحقيقية للحضارة العباسية.
يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان سقوط بغداد حتمياً، أم أن هناك خيارات أخرى كان يمكن اتخاذها لتجنب الكارثة؟ ربما لو كان الخليفة المستعصم بالله أكثر وعياً بحجم الخطر الذي يواجهه، لكان سعى إلى بناء تحالفات إقليمية بدلاً من الاعتماد على وزير كان يخطط ضده من الداخل. ربما لو لم يتم تقليص الجيش العباسي، لكانت المدينة قادرة على الصمود لفترة أطول، مما كان سيمنح الفرصة للمماليك أو أي قوة إسلامية أخرى للتدخل. ربما لو لم تكن الخلافة قد تآكلت داخلياً قبل عقود من الغزو، لما وجدت نفسها في هذه العزلة القاتلة عندما حانت لحظة المواجهة.
لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن سقوط بغداد لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان نقطة تحول في تاريخ العالم الإسلامي، حيث فقد المسلمون عاصمتهم الحضارية، وتراجعت القوة الإسلامية إلى الهامش لقرون بعد ذلك. لقد كان درساً قاسياً حول كيف يمكن للانقسامات الداخلية أن تكون أخطر من أي عدو خارجي، وكيف يمكن للخيانة أن تفتح الأبواب التي تعجز الجيوش عن اقتحامها. في النهاية، لم يكن المغول هم من أسقطوا بغداد، بل كانت بغداد قد خانت نفسها قبل أن يصلوا إليها.