مع تزايد أزمة التلوث الهوائي، الازدحام المروري، والاعتماد على الوقود الأحفوري، بدأت بعض المدن حول العالم في التفكير في مستقبل أكثر استدامة يقوم على إلغاء السيارات من شوارعها. في الوقت الذي أصبحت فيه السيارات الكهربائية جزءًا من الحل، فإن هناك اتجاهًا آخر يدعو إلى التخلص من السيارات تمامًا داخل المدن الحضرية، واستبدالها بالمشي، الدراجات الهوائية، ووسائل النقل العام الذكية.
لكن هل يمكن أن تصبح هذه الفكرة واقعًا عالميًا؟ وهل المجتمعات الحديثة مستعدة للتخلي عن السيارات التي أصبحت جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية؟
لماذا تُعتبر السيارات مشكلة بيئية؟
تُعد السيارات أحد أكبر المساهمين في التلوث البيئي، حيث أن قطاع النقل مسؤول عن 24% من انبعاثات الغازات الدفيئة عالميًا، وفقًا لتقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ. لا يقتصر الأمر على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بل يشمل أيضًا التلوث الهوائي الناجم عن احتراق الوقود، الضوضاء، والاستهلاك الهائل للبنية التحتية الحضرية.
في المدن الكبرى مثل بكين، دلهي، ومكسيكو سيتي، تسبب التلوث الناجم عن السيارات في مشاكل صحية خطيرة، مثل أمراض الجهاز التنفسي، أمراض القلب، وارتفاع معدلات الوفيات المبكرة. تشير الدراسات إلى أن حظر السيارات في بعض المناطق الحضرية يمكن أن يقلل التلوث بنسبة 30% خلال بضع سنوات فقط، وهو ما دفع بعض الحكومات إلى التفكير في مدن بلا سيارات كحل جذري لهذه المشكلة.
في الوقت الذي تبدو فيه فكرة المدن الخالية من السيارات غير واقعية في العديد من الدول، هناك أماكن حول العالم بدأت بالفعل في تنفيذ خطط حظر السيارات داخل المناطق الحضرية، مثل:
البندقية (إيطاليا): واحدة من أقدم المدن في العالم التي لا تحتوي على سيارات، حيث يعتمد السكان بالكامل على القوارب والمشي للتنقل داخل المدينة.
أوسلو (النرويج): أعلنت خططًا لحظر السيارات من وسط المدينة بالكامل، واستبدال الطرق التقليدية بمساحات للمشاة والدراجات الهوائية.
بوجوتا (كولومبيا): تطبق “يوم بدون سيارات” شهريًا، وهو إجراء أثبت نجاحه في تقليل الانبعاثات وتحسين جودة الهواء.
باريس (فرنسا): بدأت بحظر السيارات من بعض المناطق المركزية في أيام معينة، وفرضت ضرائب مرتفعة على المركبات الملوثة لتشجيع السكان على استخدام وسائل النقل البديلة.
يقول نبيل الطرابلسي، الخبير في تخطيط المدن المستدامة، إن “المدن الحديثة ليست مصممة للبشر، بل للسيارات. يجب أن نعيد التفكير في التصميم الحضري بحيث يصبح أكثر ملاءمة للمشي ووسائل النقل المستدامة”.
ما الفوائد المتوقعة لمدن بلا سيارات؟
تطبيق فكرة إلغاء السيارات من المدن يمكن أن يحقق فوائد بيئية واقتصادية وصحية، من بينها:
تحسين جودة الهواء: يمكن أن يؤدي تقليل حركة السيارات إلى انخفاض مستويات التلوث الهوائي بنسبة 50%، مما يحسن صحة السكان.
خفض انبعاثات الكربون: التحول إلى النقل العام والدراجات الهوائية يمكن أن يقلل من الانبعاثات الضارة بشكل كبير.
تعزيز جودة الحياة: مدن بلا سيارات تعني أماكن أكثر أمانًا للمشي، مساحات خضراء أكثر، وانخفاض الضوضاء المرورية.
تحسين الاقتصاد المحلي: تشير الدراسات إلى أن المناطق التي يتم تحويلها إلى مناطق مشاة تشهد زيادة في النشاط التجاري بسبب سهولة الوصول إلى المتاجر والمطاعم.
يؤكد أيمن الكردي، المتخصص في الاقتصاد الأخضر، أن “المدن المستدامة ليست مجرد فكرة بيئية، بل هي استثمار اقتصادي ناجح. عندما تصبح الشوارع مخصصة للمشاة والدراجات، يتحسن الاقتصاد المحلي بشكل كبير، حيث يفضل الناس قضاء وقت أطول في التسوق والاستمتاع بالمدينة”.
رغم الفوائد العديدة، لا يزال هناك تحديات رئيسية تمنع تحقيق فكرة المدن الخالية من السيارات على نطاق واسع، من بينها:
البنية التحتية غير المهيأة: العديد من المدن تعتمد على السيارات كمصدر رئيسي للنقل، وبالتالي فإن إزالة السيارات تتطلب إعادة تصميم الشوارع بالكامل.
مقاومة السكان للتغيير: السيارات أصبحت جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية، وإقناع الناس بالتخلي عنها ليس بالأمر السهل.
ضعف وسائل النقل البديلة: في بعض المدن، لا تزال أنظمة النقل العام غير كافية لاستيعاب ملايين السكان دون سيارات.
المصالح الاقتصادية لشركات السيارات والنفط: التحول إلى مدن بلا سيارات قد يؤثر على الاقتصادات التي تعتمد على صناعة السيارات والبترول، مما يؤدي إلى مقاومة سياسية واقتصادية قوية لهذه الفكرة.
يقول مروان العبيدي، المهندس المتخصص في أنظمة النقل الحضري، إن “نجاح مدن بلا سيارات يعتمد على توفير بدائل فعالة. إذا لم تكن هناك وسائل نقل عام سريعة ومتاحة للجميع، فلن يكون من الواقعي حظر السيارات تمامًا”.
هل يمكن تحقيق الفكرة في الدول العربية؟
في العالم العربي، لا تزال فكرة مدن بلا سيارات بعيدة عن التطبيق، لكن هناك بعض المبادرات التي بدأت في هذا الاتجاه، مثل:
دبي: بدأت في تطوير مشاريع تنقل ذاتي بدون سيارات، مثل المركبات ذاتية القيادة وأنظمة المترو الفعالة.
الرياض: أطلقت مشاريع لتوسيع شبكة المترو والحافلات الكهربائية، لتقليل الاعتماد على السيارات الخاصة.
الدار البيضاء: نفذت تجربة إغلاق بعض الشوارع أمام السيارات خلال عطلات نهاية الأسبوع لتشجيع المشي واستخدام الدراجات.
رغم أن التحول إلى مدن خالية من السيارات قد يبدو مستقبليًا أو غير واقعي، إلا أن بعض الاتجاهات تشير إلى أنه قد يصبح حقيقة في بعض المناطق الحضرية المتقدمة. مع تزايد الأزمات البيئية، والازدحام، وارتفاع تكاليف الوقود، فإن الحكومات قد تجد نفسها مضطرة لإعادة تصميم المدن بطريقة تقلل الاعتماد على السيارات.
لكن السؤال الأهم: هل يمكن تحقيق هذا التغيير على مستوى عالمي، أم أنه سيظل مقتصرًا على بعض المدن المتقدمة فقط؟
إذا استمر الضغط البيئي والاقتصادي، فإن المستقبل قد يشهد مدنًا جديدة مصممة بالكامل بلا سيارات، حيث يعتمد السكان على المشي، النقل الجماعي، والتكنولوجيا الذكية للتنقل. لكن نجاح الفكرة يتطلب إرادة سياسية، وتخطيطًا حضريًا ذكيًا، وتغييرات جذرية في البنية التحتية، وهو تحدٍّ لا يزال بعيد المنال في العديد من الدول.
في النهاية، إذا كانت السيارات قد غيرت المدن في القرن العشرين، فإن القرن الحادي والعشرين قد يكون بداية عصر المدن الخالية من السيارات، حيث تصبح الشوارع ملكًا للبشر، وليس للمركبات.