في تصريح يحمل دلالات خطيرة، حذّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من أن الحرب الباردة التي أشعلها الغرب ضد بلاده قد تتحول إلى مواجهة ساخنة، مشيرًا إلى أن حلف الناتو يستخدم الأزمة الأوكرانية لإعادة فرض وجوده السياسي بعد ما وصفه بـ”الكارثة الأفغانية”، في إشارة إلى الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان عام 2021.
جاءت تصريحات لافروف خلال اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في مالطا، حيث استغل موسكو المنبر لتوجيه اتهامات مباشرة إلى الغرب بأنه يسعى إلى تأجيج الصراع العسكري بدلاً من إيجاد حلول دبلوماسية. في المقابل، لم يكن الحضور الغربي أقل حدة، حيث اتهمت معظم الدول الأوروبية الحاضرة روسيا بمواصلة العدوان على أوكرانيا وتهديد الأمن الأوروبي.
المحلل العسكري فريد سالم، يرى أن “تصريحات لافروف ليست مجرد تهديد لفظي، بل تعكس قلقًا روسيًا حقيقيًا من أن الغرب بات مستعدًا لدفع روسيا نحو استنزاف طويل الأمد في أوكرانيا، ما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري خارج حدود الصراع الحالي”.
إعادة إنتاج الحرب الباردة: استراتيجيات الناتو والرد الروسي
بحسب لافروف، فإن حلف الناتو وجد نفسه في أزمة هوية بعد الفشل في أفغانستان، وكان بحاجة إلى إعادة إحياء دوره عبر خلق عدو موحد، وهو ما تحقق عبر تصوير روسيا كتهديد وجودي لأوروبا والغرب.
في هذا السياق، أصبحت أوكرانيا ساحة المواجهة الجديدة، حيث يرى الكرملين أن الغرب لم يكن معنيًا بالدفاع عن سيادة كييف بقدر ما كان يبحث عن فرصة لعزل روسيا دوليًا، وإضعافها عسكريًا واقتصاديًا.
لكن على الجانب الآخر، تعتبر واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي أن موسكو هي من أعادت أجواء الحرب الباردة بغزوها لأوكرانيا، وهو ما فرض على الغرب إعادة التفكير في استراتيجياته الدفاعية، مما أدى إلى توسيع الناتو عبر ضم فنلندا والسويد، وتعزيز الدعم العسكري لأوكرانيا بشكل غير مسبوق.
الباحث فارس بن دريم، الخبير في الشؤون الأوروبية، يرى أن “روسيا تحاول الترويج لفكرة أن الناتو هو الذي افتعل الأزمة، بينما الحقيقة أن بوتين هو من اتخذ قرار الحرب، وبالتالي فإن الغرب لم يكن لديه خيار سوى الرد”.
منظمة الأمن والتعاون في أوروبا: منصة دبلوماسية معطلة؟
منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي تأسست في حقبة الحرب الباردة كمظلة للحوار بين الشرق والغرب، وجدت نفسها اليوم عاجزة عن تحقيق اختراق دبلوماسي في الأزمة الأوكرانية، حيث أصبحت الاجتماعات فيها مجرد مناسبات لتبادل الاتهامات دون وجود أي آلية حقيقية لحل النزاع.
في هذا السياق، استخدم لافروف الاجتماع لانتقاد ازدواجية المعايير الغربية، مشيرًا إلى أن الدول الغربية لا تمانع في انتهاك القوانين الدولية عندما يخدم ذلك مصالحها، لكنه لم يشر إلى دور موسكو في تصعيد الأزمة من خلال الحرب على أوكرانيا.
الباحث فارس بن دريم، الخبير في الشؤون الأوروبية، يقول إن “روسيا تستخدم هذه المنتديات كمنصات دعائية، لكنها لا تبدي أي استعداد فعلي للتفاوض، حيث لا تزال تراهن على الحل العسكري لإجبار الغرب على القبول بشروطها”.
ما يثير القلق في تصريحات لافروف هو تحذيره من احتمالية تحول الحرب الباردة الجديدة إلى حرب ساخنة، وهو ما يشير إلى أن موسكو لم تعد تستبعد مواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب، خاصة في حال استمر تدفق الأسلحة الغربية المتقدمة إلى أوكرانيا.
التطورات الأخيرة، مثل تزويد أوكرانيا بصواريخ بعيدة المدى وأنظمة دفاع جوي متطورة، قد ترفع من احتمالات حدوث تصعيد عسكري مباشر بين روسيا والغرب، سواء عبر ضربات روسية لمخازن الأسلحة الغربية داخل أوكرانيا، أو عبر استهداف مباشر لقوات الناتو إذا تدخلت بشكل أكبر في النزاع.
لكن رغم هذا التصعيد في الخطاب، فإن هناك تحفظات واضحة داخل موسكو على خوض مواجهة مباشرة مع الناتو، حيث تدرك القيادة الروسية أن أي مواجهة مفتوحة مع الحلف قد تكون كارثية على روسيا نفسها.
المحلل العسكري فريد سالم، يؤكد أن “الكرملين يدرك أن الدخول في حرب مباشرة مع الناتو سيكون بمثابة مغامرة غير محسوبة، ولهذا لا تزال موسكو تراهن على استنزاف أوكرانيا ودفع الغرب إلى الإنهاك الاقتصادي والسياسي”.
هل نحن على أعتاب مواجهة أوسع؟
بينما يستمر الصراع في أوكرانيا، يبدو أن العلاقات بين روسيا والغرب وصلت إلى نقطة اللاعودة، حيث أصبح كلا الطرفين يرى في الآخر تهديدًا استراتيجيًا وجوديًا.
إذا استمر الغرب في دعم أوكرانيا عسكريًا دون تقديم حلول سياسية، فقد تضطر روسيا إلى التصعيد بشكل أوسع، سواء عبر هجمات سيبرانية، أو استهداف مباشر للبنية التحتية العسكرية في دول قريبة من أوكرانيا.
إذا استمرت موسكو في استراتيجيتها الحالية دون تقديم تنازلات دبلوماسية، فقد يتحول الصراع إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، مع تداعيات اقتصادية وسياسية قد تؤثر على استقرار أوروبا وروسيا نفسها.
الخطر الأكبر يتمثل في خطأ استراتيجي أو حادث غير متوقع قد يؤدي إلى تصعيد غير محسوب، كما حدث في الأزمات الكبرى خلال الحرب الباردة.
الدكتور ألكسندر دوبروف، المحلل السياسي في معهد موسكو للدراسات الاستراتيجية، يرى أن “الوضع الحالي يشبه إلى حد كبير أزمات الحرب الباردة مثل أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، حيث يحاول كل طرف اختبار حدود الآخر، لكن الفرق الآن هو أن أدوات الردع أصبحت أقل، والقيادات السياسية أكثر اندفاعًا”.
رغم الأجواء المشحونة، لا تزال هناك مساحات للمناورة الدبلوماسية، حيث قد يدفع استمرار الحرب في أوكرانيا الطرفين إلى التفكير في حلول بديلة لتجنب كارثة كبرى.
لكن الواقع يشير إلى أن العالم دخل مرحلة جديدة من الاستقطاب الحاد، حيث باتت المواجهة بين روسيا والغرب مسألة وقت وليس احتمالًا مجردًا. السؤال الكبير الآن هو: هل ستتمكن الأطراف المتصارعة من تجنب المواجهة المباشرة، أم أننا نقترب من لحظة تاريخية قد تغير شكل النظام العالمي بالكامل؟