عندما بدأت أوروبا بالدخول إلى عصر الحداثة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت المجتمعات العربية لا تزال تعتمد على الأنظمة التقليدية في الحكم والمعرفة والاقتصاد. ورغم أن بعض الدول الإسلامية كانت في مراحل سابقة من التاريخ مركزاً للعلم والفكر، إلا أن الحداثة لم تُترجم إلى واقع سياسي واجتماعي في العالم العربي كما حدث في أوروبا. لماذا لم يحدث تحول مشابه؟ هل كان التأخر العربي في دخول الحداثة نتيجة لعوامل داخلية، أم أن هناك قوى خارجية ساهمت في إبقاء المجتمعات العربية في حالة من الركود؟
الحداثة ليست مجرد تطور تقني أو صناعي، بل هي تحول شامل في أنماط التفكير، والعلاقات الاجتماعية، والأنظمة السياسية. في أوروبا، بدأت الحداثة مع الثورة العلمية والفكرية، التي أنتجت فلسفات جديدة مثل العقلانية، والعلمانية، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. لكن الحداثة لم تكن مسارًا موحدًا للجميع، إذ إن كل مجتمع دخلها وفق سياقاته الخاصة.
لكن في العالم العربي، ظل السؤال معلقًا: لماذا لم تحدث حداثة مماثلة؟ هل كان هناك رفض بنيوي للحداثة، أم أن العوامل التاريخية والسياسية جعلت دخولها أكثر صعوبة؟
العصر الذهبي العربي: هل كان هناك حداثة قبل الحداثة؟
خلال العصور الوسطى، كانت الحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها العلمي والفكري، حيث شهدت بغداد، ودمشق، وقرطبة، مراكز بحثية أنتجت علوماً متقدمة في الرياضيات، والفلك، والفلسفة. في تلك المرحلة، لم يكن هناك تناقض واضح بين الدين والعلم، إذ إن العلماء المسلمين الأوائل لم يجدوا مشكلة في تطوير العلوم مع الاحتفاظ بإيمانهم الديني.
لكن مع سقوط الأندلس، وانهيار الدولة العباسية، بدأ تراجع الحضارة الإسلامية، ودخل العالم العربي في مرحلة من الركود الثقافي، بينما كانت أوروبا تدخل عصر النهضة. بعض الباحثين يرون أن الحداثة الغربية استلهمت الكثير من المعارف الإسلامية، لكن في المقابل، لم يكن هناك انتقال مماثل للحداثة من أوروبا إلى الشرق الإسلامي.
يقول الباحث سالم الأنصاري، أستاذ التاريخ الإسلامي، إن “التراجع لم يكن بسبب نقص الإبداع، بل لأن البنية السياسية والاجتماعية في العالم الإسلامي بدأت ترفض التجديد وتتشبث بالنماذج التقليدية، خوفًا من فقدان السيطرة على السلطة”.
الاستعمار والتحديث القسري: هل كانت الحداثة مفروضة من الخارج؟
عندما دخلت القوى الاستعمارية الأوروبية إلى العالم العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، لم تكن الحداثة خيارًا داخليًا، بل كانت تأتي عبر مؤسسات استعمارية فرضت نموذجًا تحديثيًا يخدم القوى الخارجية أكثر مما يخدم المجتمعات المحلية.
على سبيل المثال، فرضت فرنسا وبريطانيا أنظمة تعليمية وإدارية حديثة، لكنها لم تسمح بقيام أنظمة ديمقراطية حقيقية في الدول المستعمرة، مما جعل التحديث مرتبطًا بالاستعمار، وليس بتطور طبيعي للمجتمع.
يقول الدكتور نزار القحطاني، الباحث في الفكر السياسي، إن “المشكلة أن العرب لم يخوضوا الحداثة بنفس الطريقة التي خاضها الأوروبيون. ففي أوروبا، جاءت الحداثة نتيجة حراك داخلي طويل، أما في العالم العربي، فقد جاءت عبر الاستعمار، مما جعلها تبدو كقوة غريبة مفروضة من الخارج”.
واحد من أكبر التحديات التي واجهت الحداثة في العالم العربي كان العلاقة بين الدين والفكر الحديث. في أوروبا، أدى عصر التنوير إلى إضعاف سلطة الكنيسة، وظهور العلمانية كنظام سياسي وفكري. أما في العالم الإسلامي، فقد بقي الدين لاعبًا رئيسيًا في السياسة والثقافة، مما جعل فكرة التحديث محفوفة بالمخاطر.
بعض الحركات الإسلامية رفضت الحداثة باعتبارها مشروعًا غربيًا يهدف إلى تفكيك الهوية الإسلامية، بينما حاولت تيارات أخرى، مثل مدرسة الإصلاح الديني التي تبناها مفكرون مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، إيجاد طريقة للتوفيق بين الإسلام والحداثة. لكن هذه الجهود لم تكن كافية لإحداث تحول حقيقي.
يقول الدكتور جواد العتيبي، الباحث في الدراسات الإسلامية إن “الحداثة لم تكن مرفوضة بالكامل، لكن كان هناك توجس دائم تجاهها، خاصة عندما بدت وكأنها تأتي على حساب الهوية الدينية والثقافية”.
الأنظمة السياسية العربية: هل عرقلت الحداثة؟
بعد الاستقلال عن الاستعمار، كان يُفترض أن تدخل الدول العربية في مرحلة تحديث حقيقية، لكن بدلاً من ذلك، دخلت معظمها في أنظمة حكم استبدادية، استخدمت خطاب الحداثة في الظاهر، لكنها في الواقع أسست أنظمة قمعية لم تسمح بتطور فكري حقيقي.
في مصر، حاول عبد الناصر تطبيق نموذج تحديثي اشتراكي، لكنه استند إلى سلطة مركزية قوية حدّت من الحريات السياسية والفكرية. في العراق وسوريا، قام حزب البعث برفع شعارات التقدم، لكنه مارس سياسات قمعية حالت دون نشوء مجتمع حديث حقيقي.
مع بداية الربيع العربي في 2011، بدا أن هناك فرصة جديدة للحداثة في العالم العربي، حيث طالبت الشعوب بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والحرية السياسية. لكن معظم هذه الثورات إما انتهت بحروب أهلية، كما في سوريا وليبيا واليمن، أو بإعادة إنتاج الأنظمة القديمة كما في مصر وتونس.
هذا الفشل أعاد طرح السؤال: هل كانت المجتمعات العربية غير جاهزة للحداثة السياسية؟ أم أن القوى الداخلية والخارجية تعاونت على إجهاض أي محاولة للتغيير؟
يقول الدكتور ربيع الكيلاني، أستاذ العلوم السياسية، إن “الربيع العربي لم يفشل لأن الشعوب لم تكن جاهزة، بل لأن الأنظمة كانت مستعدة لسحق أي محاولة للحداثة الحقيقية، مدعومة بقوى إقليمية ودولية ترى في الديمقراطية تهديدًا لمصالحها”.
السؤال الأكبر اليوم هو: هل يمكن تحقيق حداثة عربية لا تكون مجرد نسخة مقلدة من الحداثة الغربية؟ هل يمكن إيجاد نموذج تحديثي يحترم الهوية الثقافية والدينية، وفي الوقت نفسه يحقق تطورًا علميًا وسياسيًا؟
البعض يرى أن الحل يكمن في إعادة قراءة التراث بشكل نقدي، للبحث عن عناصر داخلية يمكن أن تدعم التطور بدلاً من مقاومته. آخرون يرون أن الحل الوحيد هو الفصل بين الدين والدولة، كما حدث في أوروبا، حتى يتمكن المجتمع من دخول العصر الحديث بدون قيود تقليدية.
في النهاية، لا يمكن إنكار أن العالم العربي لم يدخل الحداثة بنفس الوتيرة التي دخلتها أوروبا، لكن هذا لا يعني أن المستقبل مغلق. الحداثة ليست طريقًا واحدًا، بل هي عملية معقدة تتشكل وفق ظروف كل مجتمع.
ربما يكون السؤال الأكثر أهمية اليوم ليس لماذا تأخر العرب عن الحداثة، بل كيف يمكنهم تحقيقها بطريقة تتناسب مع واقعهم الثقافي والاجتماعي؟ الحداثة ليست مجرد تقليد للغرب، بل هي مشروع يجب أن ينبع من داخل المجتمعات نفسها، وإلا فإنها ستظل مجرد قشرة سطحية، سرعان ما تنهار عند أول اختبار حقيقي.