لطالما كان سؤال “ماذا يحدث بعد الموت؟” أحد أكثر الأسئلة التي حيّرت البشر منذ فجر الحضارة. جميع الأديان الكبرى قدّمت إجابات مختلفة، تتراوح بين الجنة والنار، أو إعادة التناسخ، أو الذوبان في الكون. لكن مع تطور العلم، بدأ البحث عن إجابة مختلفة، ليس من خلال النصوص الدينية، بل من خلال علم الأعصاب، والفيزياء، والبحوث في تجارب الاقتراب من الموت.
لكن السؤال يظل معقداً: هل يمكن للعلم أن يجيب عن شيء بطبيعته يتجاوز الحياة نفسها؟ أم أن مسألة ما بعد الموت ستظل دائماً في نطاق الإيمان والمعتقدات الشخصية؟
من الناحية الطبية، الموت هو توقف جميع وظائف الجسد، بما في ذلك الدماغ. عندما يتوقف القلب عن النبض، تنقطع إمدادات الأكسجين عن الدماغ، مما يؤدي إلى توقف النشاط العصبي خلال دقائق.
لكن في السنوات الأخيرة، كشفت دراسات علمية أن الوعي قد يستمر لفترة قصيرة بعد توقف القلب. في تجربة أجراها الدكتور مروان بدران، الباحث في علم الأعصاب، تم رصد نشاط دماغي غير متوقع في بعض المرضى الذين تعرضوا لسكتات قلبية، حيث أظهروا إشارات دماغية تشبه تلك المرتبطة بالإدراك والوعي، حتى بعد توقف القلب لعدة دقائق.
يقول الدكتور بدران: “هذه النتائج تثير أسئلة مهمة حول طبيعة الوعي، وما إذا كان يمكن أن يستمر حتى بعد توقف النشاط البيولوجي. نحن لا نقول إن هذا دليل على الحياة بعد الموت، لكنه بالتأكيد يغير فهمنا لما يحدث في لحظة الوفاة”.
تجارب الاقتراب من الموت: هل هي أدلة على شيء آخر؟
على مدار عقود، أبلغ آلاف الأشخاص الذين تعرضوا لحالات موت سريري عن تجارب غير عادية، مثل رؤية ضوء ساطع، أو الشعور بالتحليق فوق أجسادهم، أو حتى لقاء أقارب متوفين.
تم تحليل هذه الظواهر علمياً، حيث يعتقد بعض الباحثين أنها نتيجة لنشاط غير عادي في الدماغ عندما يكون على وشك التوقف. في دراسة أجراها فريق من جامعة نيويورك، تم اكتشاف أن بعض المرضى الذين عادوا إلى الحياة بعد توقف القلب أبلغوا عن تجارب متشابهة، مما يشير إلى أن الدماغ قد يكون قادراً على إنتاج وعي حتى في اللحظات الأخيرة.
لكن البعض يرى أن هذه التجارب قد تكون دليلاً على شيء يتجاوز العلم، حيث يصعب تفسير بعض الظواهر التي يرويها الناجون، مثل معرفتهم بتفاصيل دقيقة عن ما حدث حولهم أثناء فقدانهم للوعي التام.
تقول الدكتورة ليلى الكرمي، الباحثة في علم النفس، إن “العقل البشري قادر على إنتاج تجارب عميقة ومعقدة عندما يكون في حالة خطر. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هذه التجارب ليست حقيقية، بل ربما تكون انعكاساً لشيء لم نفهمه بعد”.
الفيزياء والروح: هل يمكن للطاقة أن تستمر بعد الموت؟
بعض العلماء تساءلوا عما إذا كان يمكن تفسير فكرة الحياة بعد الموت من خلال الفيزياء، حيث ينص القانون الأول للديناميكا الحرارية على أن الطاقة لا تفنى، بل تتحول من شكل إلى آخر.
هذا دفع بعض الباحثين إلى افتراض أن الوعي قد يكون شكلاً من أشكال الطاقة التي يمكن أن تستمر بعد موت الجسد. لكن المشكلة هنا أن الوعي ليس مجرد طاقة، بل هو ناتج عن عمليات معقدة داخل الدماغ، وليس هناك دليل علمي على أن هذه العمليات يمكن أن تستمر خارج الجسم المادي.
يقول الدكتور نادر سليم، الباحث في فيزياء الكم، إن “بعض المفاهيم في فيزياء الكم تشير إلى أن الواقع ليس كما نراه، وأنه قد تكون هناك أبعاد أخرى للوجود. لكن هذا لا يعني أننا نملك أي دليل على أن الوعي يستمر بعد الموت”.
هل يمكن إثبات أو نفي الحياة بعد الموت؟
حتى الآن، لا يوجد دليل علمي قاطع يؤكد أو ينفي وجود حياة بعد الموت. بعض الباحثين يرون أن هذا السؤال قد لا يكون قابلاً للإجابة العلمية أصلاً، لأنه يتعلق بتجربة ذاتية لا يمكن قياسها أو اختبارها تجريبياً.
لكن في المقابل، لا تزال الشهادات والتجارب الشخصية، خاصة تلك المرتبطة بتجارب الاقتراب من الموت، تثير الفضول وتجعل البعض يؤمن بأن هناك شيئاً ما بعد هذه الحياة.
في النهاية، يبقى السؤال عن ما بعد الموت مفتوحاً، حيث لا يستطيع العلم أن ينفيه تماماً، كما لا يستطيع إثباته. بالنسبة للبعض، الإيمان بالحياة بعد الموت يمنحهم الطمأنينة والمعنى، بينما يرى آخرون أن هذه الحياة هي كل ما لدينا، وأن البحث عن إجابات خارج حدودها قد يكون مضيعة للوقت.
وربما يكون السؤال الأكثر أهمية ليس ما إذا كانت هناك حياة بعد الموت، بل كيف نعيش الحياة التي لدينا الآن، وما إذا كان يمكننا إيجاد معنى وقيمة لها، بغض النظر عمّا قد يحدث بعدها.