Spread the love

في زيارة تحمل أبعادًا عسكرية وسياسية، يتوجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قاعدة جوية في الأردن يومي الخميس والجمعة، حيث سيحتفل مع الجنود الفرنسيين المنتشرين في المنطقة بأعياد الميلاد، وهي مناسبة يستغلها الإليزيه لتسليط الضوء على التزام فرنسا الدائم بمكافحة الإرهاب. تأتي هذه الزيارة في وقت حساس بالنسبة لماكرون، حيث يواجه تحديات سياسية داخلية على خلفية إسقاط قانون الهجرة في البرلمان، بالإضافة إلى تصاعد الضغوط الدولية بشأن موقفه من الحرب في غزة.

خلال زيارته، سيتناول ماكرون العشاء مع 350 جنديًا فرنسيًا في القاعدة، حيث تم إعداد قائمة الطعام من قبل طهاة الرئاسة الفرنسية، وهو تقليد يعكس حرص الرئيس على التواصل المباشر مع القوات المسلحة، خاصة في ظل بيئة جيوسياسية مضطربة. لكن الزيارة ليست فقط احتفالية، إذ ستشمل لقاءً مهمًا مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في اجتماع يهدف إلى بحث الجهود المشتركة في تقديم المساعدات الإنسانية والطبية إلى قطاع غزة، وسط استمرار الحرب الإسرائيلية ضد حماس.

التوازن الصعب: موقف فرنسا من الحرب في غزة

عشية مغادرته إلى الأردن، أدلى ماكرون بتصريحات حادة خلال مقابلة مع قناة “فرانس 5″، حيث أكد أن “محاربة الإرهاب لا تعني تدمير غزة بالكامل”، في إشارة إلى الانتقادات المتزايدة لطريقة تعامل إسرائيل مع الحرب في القطاع. شدد ماكرون على أن “إسرائيل لديها حق مشروع في الدفاع عن نفسها، لكن يجب حماية المدنيين في غزة وفرض هدنة إنسانية”.

تصريحات الرئيس الفرنسي تعكس محاولته الحفاظ على توازن دبلوماسي دقيق بين دعم إسرائيل في مواجهة حماس، وبين التأكيد على التزام باريس بحقوق الإنسان والحفاظ على الاستقرار الإقليمي، خاصة مع تصاعد الغضب الشعبي داخل فرنسا إزاء ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين في غزة.

يشكل الجنود الفرنسيون المنتشرون في الأردن جزءًا من عملية “شمال”، وهي امتداد لمشاركة فرنسا في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية. إلى جانب القوات في الأردن، يشارك 250 جنديًا فرنسيًا في عمليات بالعراق وسوريا ضمن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة تحت اسم “العزم الصلب”، والذي بدأ منذ 2014 بهدف القضاء على فلول تنظيم الدولة الإسلامية.

ورغم أن العمليات العسكرية المباشرة ضد التنظيم تراجعت بشكل كبير، إلا أن مقتل ثلاثة جنود فرنسيين هذا الصيف في العراق كان تذكيرًا بأن الخطر لا يزال قائمًا، حيث لا تزال الخلايا الإرهابية نشطة، وإن كانت العمليات العسكرية الفرنسية أصبحت أكثر تركزًا على تقديم المشورة والمساعدة للقوات العراقية.

الإليزيه أكد أن عدد الضربات الجوية الفرنسية أصبح أقل مما كان عليه سابقًا، وهو ما يعكس التحول في استراتيجية باريس من التدخل العسكري المباشر إلى دعم الحلفاء الإقليميين، مع التركيز على التدريب وتبادل المعلومات الاستخباراتية.

تصاعد التوتر الإقليمي: هل تزيد الهجمات ضد القوات الغربية؟

منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس في السابع من أكتوبر، شهدت المنطقة تصعيدًا في الهجمات التي تنفذها الفصائل الموالية لإيران ضد القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، مما يرفع من مستوى المخاطر التي تواجهها القوات الغربية المنتشرة في المنطقة، بما في ذلك القوات الفرنسية.

خبراء عسكريون يرون أن الهجمات المستمرة على المصالح الأمريكية والغربية في الشرق الأوسط تزيد من تعقيد العمليات العسكرية الفرنسية، وتجعل من الضروري إعادة تقييم الأهداف الاستراتيجية لوجود فرنسا العسكري في المنطقة.

بينما يحتفل ماكرون مع الجنود الفرنسيين في قاعدة جوية في الأردن، ستكون آخر مجموعة من القوات الفرنسية تغادر النيجر، إيذانًا بنهاية التواجد العسكري الفرنسي في البلاد بعد أكثر من عقد من العمليات ضد الجماعات الجهادية.

انسحاب فرنسا من النيجر يأتي في أعقاب سلسلة من الانتكاسات العسكرية والدبلوماسية التي تعرضت لها باريس في إفريقيا، بعد طرد قواتها من مالي وبوركينا فاسو إثر الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالحكومات المدعومة من الغرب. ومع تزايد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، تجد فرنسا نفسها مضطرة إلى إعادة توجيه تركيزها الاستراتيجي نحو أوروبا، خاصة منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.

الخبير العسكري شارل أمين، يرى أن “انسحاب القوات الفرنسية من النيجر يعكس فشل الاستراتيجية الفرنسية في منطقة الساحل، لكنه في الوقت ذاته يتيح إعادة توزيع الموارد العسكرية لتعزيز التواجد الفرنسي في أوروبا الشرقية، حيث تصاعدت التوترات مع موسكو منذ 2022”.

إعادة انتشار القوات: هل تتغير أولويات باريس العسكرية؟

مع تقلص النفوذ الفرنسي في إفريقيا، تتزايد التكهنات حول الوجهة المستقبلية للجيش الفرنسي. منذ عام 2022، أعادت باريس نشر جزء من قواتها في أوروبا الشرقية لمواجهة التهديد الروسي، وهو ما قد يشير إلى تحول في الأولويات من مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وإفريقيا إلى تعزيز الأمن الأوروبي.

المحلل السياسي بشار جاسم، يشير إلى أن “التحولات الأخيرة في السياسة الدفاعية الفرنسية توضح أن ماكرون أصبح أكثر تركيزًا على أوروبا، بينما لم يعد الشرق الأوسط وأفريقيا يحتلان نفس الأولوية التي كانا عليها قبل سنوات”.

زيارة ماكرون إلى الأردن تأتي في وقت يواجه فيه ضغوطًا سياسية داخلية متزايدة، خاصة بعد إسقاط قانون الهجرة في البرلمان، والذي كشف عن ضعف أغلبيته البرلمانية، بالإضافة إلى تصاعد الاحتجاجات ضد سياساته الاقتصادية والاجتماعية.

من ناحية أخرى، لا تزال أزمة غزة تلقي بظلالها على العلاقات الفرنسية الإسرائيلية، حيث يحاول ماكرون تحقيق توازن صعب بين دعم إسرائيل وانتقاد أسلوبها العسكري، وهو ما قد يثير توترات إضافية مع حكومة نتنياهو.

في ظل كل هذه التحديات، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل تنجح فرنسا في الحفاظ على نفوذها العسكري في الشرق الأوسط رغم انسحابها من إفريقيا؟ وهل يستطيع ماكرون تجاوز الأزمات الداخلية والخارجية التي تهدد استقرار حكمه؟.

error: Content is protected !!