عندما سقطت غرناطة عام 1492، معلنةً نهاية الأندلس الإسلامية بعد قرون من الازدهار الحضاري، كان هذا السقوط بداية لواحدة من أكثر الفترات دموية واضطهاداً في تاريخ أوروبا: محاكم التفتيش الإسبانية. غالباً ما يتم تناول هذه المحاكم في سياق القرن الخامس عشر والسادس عشر، لكن تأثيرها لم يكن محصوراً في تلك الحقبة، بل امتد حتى القرن العشرين، حيث تركت بصماتها العميقة على المجتمعات المسلمة واليهودية في إسبانيا وخارجها. كيف تحولت هذه المحاكم إلى أداة للقمع السياسي والاجتماعي؟ ولماذا استمرت آثارها حتى العصر الحديث؟
لم تكن محاكم التفتيش الإسبانية وليدة سقوط الأندلس، بل تعود جذورها إلى محاولات الكنيسة الكاثوليكية فرض سلطتها المطلقة على المجتمع الإسباني. لكن في عام 1478، وتحت إشراف الملكين الكاثوليكيين فرديناند وإيزابيلا، تم إضفاء الطابع المؤسسي على هذه المحاكم، حيث أصبح لها نفوذ قانوني غير مسبوق، وكانت تستهدف في البداية اليهود المتنصرين الذين اشتُبه في استمرارهم بممارسة شعائرهم الدينية سراً.
بعد سقوط غرناطة، توسعت هذه المحاكم بشكل كبير لتشمل المسلمين الذين أجبروا على اعتناق المسيحية تحت تهديد الطرد أو الإعدام. هؤلاء “الموريسكيون”، كما أُطلق عليهم، وجدوا أنفسهم في وضع معقد، حيث كانوا يُعتبرون مسيحيين في العلن، لكن أي مؤشر على تمسكهم بهويتهم الإسلامية كان يعني التعذيب أو الإعدام.
كيف كانت تُدار المحاكم وأدوات التعذيب التي استخدمتها؟
لم تكن محاكم التفتيش مجرد محاكم قضائية، بل كانت مؤسسة ترهيب متكاملة. كان المتهمون يُحتجزون في سجون سرية لفترات غير محددة، ولا يُسمح لهم بمعرفة التهم الموجهة إليهم أو هوية من اتهمهم. كان التعذيب الوسيلة الرئيسية لانتزاع الاعترافات، حيث استخدمت أساليب وحشية مثل “البكرة”، التي يتم فيها شد أطراف الضحية حتى تتمزق عضلاته، و”التعذيب بالماء”، حيث كان يُجبر المتهم على شرب كميات هائلة من الماء حتى الاختناق.
كانت هذه المحاكم تمتلك سلطة مطلقة، حيث لم يكن هناك حق في الاستئناف، وكان الاتهام وحده كافياً للحكم بالإعدام حرقاً. أما الممتلكات، فكانت تُصادر لصالح الكنيسة أو التاج الإسباني، مما جعل هذه المحاكم أيضاً أداة للنهب والثراء غير المشروع.
لماذا استمرت محاكم التفتيش حتى القرن التاسع عشر؟
رغم أن القرن الثامن عشر شهد تراجعاً في نشاط محاكم التفتيش نتيجة صعود الأفكار التنويرية، إلا أن تأثيرها لم يتلاشَ تماماً. لم يتم إلغاؤها رسمياً إلا عام 1834، أي بعد أكثر من ثلاثة قرون على إنشائها. كان السبب الرئيسي في بقائها هو استخدامها كأداة للقمع السياسي، حيث لم تقتصر على محاربة “الهرطقة”، بل أصبحت وسيلة لقمع المعارضين السياسيين والفكر الحر.
حتى بعد إلغائها رسمياً، استمر تأثيرها في البنية الاجتماعية والثقافية لإسبانيا. بقيت المجتمعات المسلمة واليهودية السابقة تعاني من التهميش، واستمرت سياسات الطرد والمنع التي بدأت في القرن الخامس عشر في التأثير على الهوية الوطنية الإسبانية.
كيف استمرت آثار محاكم التفتيش في العصر الحديث؟
رغم أن إسبانيا أصبحت دولة ديمقراطية في القرن العشرين، إلا أن آثار محاكم التفتيش ظلت قائمة بطرق غير مباشرة. في عهد الديكتاتور فرانثيسكو فرانكو، الذي حكم البلاد من 1939 إلى 1975، تم إعادة إحياء العديد من ممارسات محاكم التفتيش، ليس ضد المسلمين واليهود فحسب، بل ضد أي معارض سياسي. كان نظام فرانكو يستخدم الكنيسة كأداة للقمع، وتم اضطهاد الجماعات التي لم تتماشى مع رؤيته القومية الكاثوليكية.
حتى اليوم، لا تزال هناك نقاشات حول الإرث الثقافي لمحاكم التفتيش، حيث لا تزال بعض العائلات ذات الأصول المسلمة أو اليهودية تتعرض للتمييز، وهناك محاولات لإعادة الاعتبار للضحايا عبر مبادرات ثقافية وقانونية. في عام 2015، اعترفت الحكومة الإسبانية رسمياً بالظلم الذي تعرض له اليهود السفارديم، ومنحتهم حق الحصول على الجنسية الإسبانية كتعويض رمزي. لكن بالنسبة للمسلمين، لا تزال هذه الاعترافات غائبة، رغم أن تاريخ الاضطهاد الذي تعرضوا له لم يكن أقل قسوة.
رغم مرور قرون على محاكم التفتيش، لا يزال من الصعب تجاوز إرثها بالكامل. لم يكن الأمر مجرد ممارسات قانونية قاسية، بل كان تحوّلاً جذرياً في بنية المجتمع الإسباني، حيث تم فرض هوية دينية وثقافية موحدة بالقوة، وتم القضاء على التنوع الذي كان يميز إسبانيا في العصور الوسطى.
في عالم اليوم، حيث تتزايد الدعوات للتسامح الديني والتعددية الثقافية، يظل إرث محاكم التفتيش درساً مهماً في كيف يمكن للقمع الديني أن يتحول إلى أداة سياسية، وكيف يمكن أن تستمر آثاره لعقود أو حتى قرون بعد انتهائه رسمياً. السؤال الذي يبقى مفتوحاً: هل ستتمكن إسبانيا يوماً ما من مواجهة ماضيها بالكامل، أم أن ظلال محاكم التفتيش ستظل تطاردها إلى الأبد؟