تأتي تهنئة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني على تشكيل حكومته في لحظة حساسة من تاريخ العلاقة بين بغداد وواشنطن، خاصة في ظل التوترات الإقليمية المتزايدة والنفوذ المتصاعد للفصائل المسلحة الموالية لإيران داخل العراق. وبينما يؤكد بلينكن على التزام الولايات المتحدة بدعم العراق، تبقى التساؤلات قائمة حول مدى واقعية هذا الدعم، وما إذا كان العراق سيسير فعلاً نحو استقلال سياسي واقتصادي حقيقي أم سيبقى ساحة لصراع النفوذ بين واشنطن وطهران.
منذ حصول حكومة السوداني على ثقة البرلمان في أكتوبر 2022، كان من الواضح أن الإدارة الأمريكية تتعامل بحذر مع الحكومة الجديدة، خاصة أن السوداني جاء بدعم من الإطار التنسيقي، التحالف الشيعي الذي يضم قوى مقربة من إيران، مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق. ورغم هذا، تسعى واشنطن للحفاظ على قنوات تواصل مفتوحة مع بغداد، في محاولة للحفاظ على التوازن داخل المشهد العراقي ومنع تحوله بالكامل لصالح النفوذ الإيراني.
الدكتور سام جورج، الباحث في الشؤون الأمريكية، يرى أن “واشنطن لا تريد خسارة العراق، لكنها في الوقت ذاته تعلم أن حكومة السوداني ليست بالكامل في صفها”. ويضيف أن “الإدارة الأمريكية تراهن على قدرة السوداني على المناورة بين الضغوط الإيرانية والمطالب الأمريكية، لكنها تدرك أيضاً أن أي مواجهة بينه وبين الفصائل الموالية لطهران قد تؤدي إلى زعزعة استقرار حكومته سريعاً”.
الملفات الخلافية بين بغداد وواشنطن: من محاربة داعش إلى النفوذ الإيراني
من خلال البيان الصادر عن الخارجية الأمريكية، يمكن تحديد أبرز الملفات التي تريد واشنطن التركيز عليها في علاقتها مع حكومة السوداني، وهي:
محاربة تنظيم الدولة (داعش): حيث تؤكد واشنطن على ضرورة استمرار التعاون الأمني لمواجهة فلول التنظيم الإرهابي، حيث لا تزال قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة تقدم دعماً عسكرياً وأمنياً للحكومة العراقية، رغم مطالبات بعض الفصائل الشيعية بسحب هذه القوات نهائياً.
ملف الفساد المستشري: فـ ترحيب بلينكن بتعهد السوداني بمحاربة الفساد يعكس رغبة أمريكية في رؤية إصلاحات اقتصادية وإدارية داخل العراق، خاصة أن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة العراقية يُعد من العوامل الرئيسية التي أضعفت الدولة العراقية على مدى العقدين الماضيين.
استقلال العراق في مجال الطاقة: حيث يشير البيان إلى أن واشنطن تريد تقليل اعتماد العراق على إيران في مجال الكهرباء والغاز، وهو أمر تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه منذ سنوات عبر مشاريع لتوسيع الربط الكهربائي بين العراق ودول الخليج. لكن العراق لا يزال يعتمد بشكل كبير على الواردات الإيرانية، مما يجعل أي تحرك في هذا الاتجاه محفوفاً بالمخاطر السياسية.
المناخ والاقتصاد: فرغم إدراج ملف المناخ والفرص الاقتصادية في البيان، فإن هذه القضايا غالباً ما تأتي في مرتبة ثانوية مقارنة بالملفات الأمنية والسياسية الأكثر إلحاحاً.
بين واشنطن وطهران: أي طريق سيسلكه السوداني؟
منذ تشكيل حكومته، يحاول السوداني لعب دور متوازن بين واشنطن وطهران، حيث أبدى التزاماً باتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، والتي تشمل التعاون الأمني والاقتصادي، لكنه في الوقت نفسه يحظى بدعم قوي من الفصائل الشيعية الموالية لإيران، والتي لا تخفي عداءها للوجود الأمريكي في العراق.
عبد الكريم الأسدي، الباحث العراقي في الشؤون السياسية، يرى أن “السوداني لا يستطيع الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران، لكنه في الوقت نفسه لا يريد خسارة الدعم الأمريكي، خاصة في ظل حاجة العراق إلى الاستثمارات الأجنبية والمساعدات التقنية في مجالات الطاقة والبنية التحتية”.
السيناريوهات المحتملة للعلاقة بين بغداد وواشنطن
مع استمرار التوترات الإقليمية وتصاعد المنافسة بين الولايات المتحدة وإيران، تبقى العلاقة بين بغداد وواشنطن محكومة بعدة سيناريوهات، أبرزها:
سيناريو التوازن الحذر: يستمر السوداني في اتباع سياسة متوازنة، يحاول من خلالها إبقاء العلاقات مع واشنطن في مستوى مقبول دون إغضاب الفصائل المسلحة وإيران.
سيناريو التصعيد مع واشنطن: قد تضغط الفصائل الشيعية على السوداني لاتخاذ مواقف أكثر عدائية تجاه الوجود الأمريكي في العراق، مما قد يؤدي إلى تصاعد التوترات وربما إعادة سيناريو المواجهات العسكرية بين القوات الأمريكية والمليشيات المسلحة.
سيناريو التقارب مع واشنطن: إذا قرر السوداني تنفيذ إصلاحات اقتصادية جدية والتوجه نحو تقليل النفوذ الإيراني، فقد يدفع ذلك واشنطن إلى تقديم دعم أكبر له، لكنه سيكون قراراً محفوفاً بالمخاطر داخلياً.
بعد أكثر من عام على الانسداد السياسي، يجد العراق نفسه أمام مرحلة جديدة من التحديات، حيث تسعى حكومة السوداني إلى تحقيق الاستقرار وسط ضغوط داخلية وخارجية متزايدة. وبينما تحاول واشنطن تعزيز وجودها في العراق، تبقى إيران لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاوزه في المشهد العراقي.ويبقى السؤال مفتوحاً: هل سيتمكن السوداني من استغلال التنافس الأمريكي – الإيراني لصالح العراق، أم أن حكومته ستجد نفسها عاجزة عن المناورة بين القوتين المتصارعتين؟