Spread the love

يشكل لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني محطة مهمة في مسار العلاقات الأمريكية-العراقية، حيث أتى في سياق إقليمي مشحون بتوترات متزايدة، أبرزها الحرب في غزة والتصعيد بين إيران وإسرائيل، إضافة إلى استمرار تداعيات الوجود الأمريكي في العراق.

ورغم مرور أكثر من عقد على تشكيل التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، فإن الحديث عن إنهاء مهمته العسكرية لا يزال يخضع لحسابات معقدة، ترتبط بواقع العراق الأمني، والتوازنات الإقليمية، والمصالح الأمريكية في المنطقة.

في هذا السياق، يُطرح تساؤل جوهري: هل يشكل إنهاء التحالف الدولي نهايةً للوجود الأمريكي العسكري في العراق، أم أنه مجرد إعادة تموضع للقوات ضمن أطر جديدة تضمن استمرار النفوذ الأمريكي في المنطقة؟

منذ إعلان الولايات المتحدة سحب قواتها القتالية من العراق عام 2021، لم تتوقف الدعوات السياسية والشعبية لإتمام الانسحاب الكامل، خاصة من الفصائل المسلحة الموالية لإيران التي تعتبر الوجود الأمريكي في العراق امتدادًا للنفوذ الغربي في المنطقة. لكن في المقابل، تدرك الحكومة العراقية أن العراق لا يزال بحاجة إلى دعم لوجستي واستخباراتي في مواجهة الخلايا النائمة لتنظيم داعش، فضلاً عن تعزيز قدرات قوات الأمن العراقية، وهو ما يجعل إنهاء مهمة التحالف ملفًا معقدًا يحتاج إلى موازنة دقيقة بين الضغوط الداخلية والمصالح الاستراتيجية.

يحاول محمد شياع السوداني، الذي جاء بدعم من الإطار التنسيقي الشيعي المقرّب من إيران، المحافظة على علاقات متوازنة مع واشنطن، فهو يدرك أهمية التنسيق الأمني مع الولايات المتحدة، لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع تجاهل مطالب الحلفاء السياسيين الذين يدفعون باتجاه إنهاء الوجود الأجنبي في البلاد. ومن هنا، فإن المفاوضات الجارية حول إنهاء مهمة التحالف الدولي لا تعني بالضرورة خروج القوات الأمريكية بالكامل، بل ربما إعادة صياغة وجودها بطريقة أكثر قبولًا داخليًا.

من منظور واشنطن، فإن العراق لا يشكل فقط قاعدة لمحاربة تنظيم داعش، بل هو ركيزة أساسية لنفوذها في الشرق الأوسط، خاصة في مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي. كما أن استمرار وجود القوات الأمريكية في العراق يتيح لها مراقبة النشاطات الإيرانية في المنطقة، ويشكل نقطة انطلاق لأي عمليات عسكرية مستقبلية في سوريا أو مناطق أخرى.

بالتالي، فإن الحديث عن إنهاء مهمة التحالف الدولي قد يكون مجرد إعادة تموضع للقوات الأمريكية بدلًا من انسحاب كامل، حيث سيتم تحويل طبيعة العلاقة العسكرية إلى شراكة أمنية ثنائية، تتيح للولايات المتحدة البقاء تحت غطاء دعم القوات العراقية دون إثارة حساسية الداخل العراقي.

لا يمكن فصل المفاوضات حول مستقبل القوات الأمريكية في العراق عن التطورات الإقليمية، خاصة مع تصاعد الصراع بين إيران وإسرائيل، والذي ينعكس بشكل مباشر على الساحة العراقية. فالفصائل المسلحة العراقية المدعومة من طهران كانت من أبرز الجهات التي استهدفت القواعد الأمريكية في العراق وسوريا بعد اندلاع الحرب في غزة، لكن هذه الهجمات خفّت بشكل ملحوظ بعد الرد الأمريكي القاسي الذي أودى بحياة عناصر من هذه الفصائل.

هذا التراجع يثير تساؤلًا مهمًا: هل جاء بأوامر إيرانية لاحتواء التصعيد بعد الضربة الأمريكية؟ أم أن الفصائل العراقية بدأت بإعادة تقييم خياراتها في ظل المفاوضات بين بغداد وواشنطن؟

بغض النظر عن الإجابة، فإن أي انسحاب أمريكي من العراق قد يغيّر من توازنات القوى في المنطقة، ويعزز النفوذ الإيراني على حساب المصالح الأمريكية، وهو ما يجعل واشنطن أكثر حذرًا في اتخاذ قرارات نهائية بشأن وجودها العسكري.

ما هو واضح في البيان المشترك بين بايدن والسوداني هو أن الطرفين يتجهان نحو ترتيب خروج منظم للقوات القتالية الأمريكية، لكن دون التخلي عن التعاون الأمني والاستخباراتي. فالعراق، رغم امتلاكه لقوات عسكرية قادرة على إدارة الأمن الداخلي، لا يزال يعتمد على الدعم التقني والاستخباراتي الأمريكي، خاصة فيما يتعلق بالمراقبة الجوية والقدرات السيبرانية في مواجهة الإرهاب.

في هذا الإطار، قد يكون السيناريو الأكثر ترجيحًا هو إعلان إنهاء رسمي لمهمة التحالف الدولي، لإرضاء التيارات السياسية المطالبة بخروج القوات الأجنبية. إلى جانب إبقاء عدد من المستشارين العسكريين الأمريكيين ضمن اتفاقية أمنية ثنائية، بحيث يتم تقديم الدعم العسكري والتدريب دون تواجد عسكري علني كبير. وتحويل بعض القواعد الأمريكية في العراق إلى مراكز تدريب وتنسيق مشترك، بدلاً من كونها قواعد عسكرية قتالية.

يبدو أن الحديث عن إنهاء مهمة التحالف الدولي لا يعني بالضرورة انسحابًا كاملاً للقوات الأمريكية من العراق، بل قد يكون تحولًا في طبيعة العلاقة الأمنية بين البلدين. فواشنطن تدرك أن خروجها الكامل سيترك فراغًا قد تستغله إيران وحلفاؤها، فيما تريد الحكومة العراقية تجنب صدام داخلي بين المطالب الشعبية بإنهاء الوجود الأجنبي والحاجة الفعلية إلى الدعم العسكري والاستخباراتي.

وفي ظل هذه المعادلة المعقدة، يبقى السؤال الأهم: هل يستطيع العراق تحقيق استقلالية أمنية حقيقية دون الاعتماد على الدعم الأمريكي، أم أن واشنطن ستظل لاعبًا رئيسيًا في المشهد العراقي حتى بعد إنهاء مهمة التحالف؟

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!