بينما ينشغل العالم بمواجهة تداعيات التغير المناخي، يبدو أن الشرق الأوسط، رغم كونه من أكثر المناطق تأثراً بالاحتباس الحراري، لم يضع بعدُ حلولاً جذرية للتعامل مع هذه الأزمة المتفاقمة. فمن الموجات الحرارية القياسية التي تسجلها دول الخليج، إلى التصحر الذي يهدد ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية في العراق وسوريا، إلى ندرة المياه التي تدق ناقوس الخطر في مصر واليمن، أصبحت التداعيات المناخية واقعاً يومياً يهدد الأمن البيئي والغذائي في المنطقة. ومع ذلك، لا تزال الحكومات العربية متأخرة في تبني استراتيجيات حقيقية للحد من الانبعاثات وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، في ظل غياب سياسات بيئية متماسكة قادرة على تحقيق تحول مستدام.
تشير تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة بمعدل أسرع من المتوسط العالمي، حيث ارتفعت الحرارة بمقدار 1.5 درجة مئوية منذ أواخر القرن العشرين، مقارنة بمتوسط عالمي بلغ 1.1 درجة. هذا الارتفاع ليس مجرد رقم، بل له تبعات خطيرة على موارد المياه والزراعة والاستقرار الاجتماعي في المنطقة.
في العراق، تراجعت نسبة الأراضي الصالحة للزراعة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة بسبب التصحر وانخفاض منسوب نهري دجلة والفرات، حيث أشارت وزارة الموارد المائية العراقية إلى أن البلاد فقدت أكثر من 40% من أراضيها الزراعية خلال العقدين الماضيين نتيجة التغيرات المناخية وسوء إدارة الموارد المائية. في المقابل، تواجه مصر أزمة وجودية تتعلق بمياه نهر النيل، مع توقعات بانخفاض تدفق المياه بسبب التغير المناخي، مما يهدد الأمن الغذائي في واحدة من أكثر دول العالم اعتماداً على الزراعة.
ارتفاع درجات الحرارة وتأثيره على الصحة العامة
يؤدي ارتفاع درجات الحرارة في الشرق الأوسط إلى تفاقم الأزمات الصحية، حيث تشير دراسة أجرتها جامعة “إمبريال كوليدج لندن” عام 2022 إلى أن موجات الحر القاسية أدت إلى زيادة ملحوظة في معدلات الوفيات في العديد من الدول العربية، خصوصاً بين كبار السن والعمال الميدانيين الذين يضطرون للعمل في ظل درجات حرارة تتجاوز 50 درجة مئوية في بعض المناطق. في السعودية، على سبيل المثال، أدى ارتفاع درجات الحرارة إلى تسجيل حالات إعياء حراري متزايدة بين الحجاج خلال موسم الحج، ما استدعى تدخلات طبية واسعة. وفي الكويت، تجاوزت الحرارة 54 درجة مئوية في صيف 2021، وهي واحدة من أعلى درجات الحرارة المسجلة على سطح الأرض، ما دفع الحكومة إلى تقليل ساعات العمل في بعض القطاعات للحد من التأثيرات الصحية المباشرة.
ندرة المياه: تهديد للأمن المائي والغذائي
تمثل المياه أحد أكبر التحديات التي يفرضها التغير المناخي على المنطقة، حيث تعاني معظم الدول العربية من معدلات شح مائي مرتفعة. وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي عام 2023، فإن 12 دولة عربية تُصنف ضمن الدول الأكثر فقراً بالمياه عالمياً، بما في ذلك اليمن، الأردن، والجزائر. ومع تزايد الطلب على المياه بسبب النمو السكاني والتوسع العمراني، تتراجع موارد المياه العذبة بشكل متسارع.
في الأردن، انخفضت حصة الفرد من المياه إلى أقل من 100 متر مكعب سنوياً، وهي نسبة تقل بكثير عن الحد الأدنى الذي تحدده الأمم المتحدة لمستوى ندرة المياه المطلقة، والمقدر بـ500 متر مكعب. أما في المغرب، فقد تسببت موجات الجفاف المتكررة في خفض الإنتاج الزراعي بنسبة 30% خلال السنوات الخمس الماضية، مما انعكس على أسعار المواد الغذائية وأدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد.
رغم أن دول الشرق الأوسط غنية بمصادر الطاقة المتجددة، إلا أنها لا تزال تعتمد بشكل شبه كلي على الوقود الأحفوري. السعودية والإمارات وقطر من أكبر الدول المصدرة للنفط والغاز عالمياً، ما يجعل اقتصاداتها تعتمد بشكل أساسي على الصناعات الملوثة التي تزيد من انبعاثات الغازات الدفيئة. تقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية عام 2022 كشف أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تشكل حوالي 8% من إجمالي الانبعاثات العالمية، رغم أن عدد سكان المنطقة لا يتجاوز 6% من سكان العالم، ما يشير إلى مدى ارتفاع كثافة الانبعاثات مقارنة بالمعدل العالمي.
ورغم تعهد بعض الدول الخليجية بتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050، إلا أن الانتقال إلى مصادر الطاقة النظيفة يسير بوتيرة بطيئة. في الإمارات، مثلاً، لا يزال النفط يشكل أكثر من 85% من إجمالي الصادرات، رغم مشاريع الطاقة الشمسية المتقدمة مثل “مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية”، الذي يُعتبر واحداً من أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم. لكن في المقابل، لا تزال معظم الدول العربية الأخرى متأخرة في تبني مشاريع مماثلة، ما يزيد من تفاقم الأزمة البيئية.
يقول الدكتور كمال الدسوقي، أستاذ البيئة والمناخ في جامعة حلوان، إن “التغير المناخي في الشرق الأوسط ليس مجرد مشكلة بيئية، بل هو تهديد وجودي يطال الأمن الغذائي والمائي والسياسي”. ويؤكد أن الدول العربية بحاجة إلى سياسات مناخية أكثر جرأة، بدلاً من الاكتفاء بالإعلان عن استراتيجيات غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. ويرى الدسوقي أن التحول نحو الاقتصاد الأخضر ليس مجرد خيار بيئي، بل هو ضرورة اقتصادية لتقليل الاعتماد على الصناعات النفطية الملوثة، وتعزيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة والمياه المحلاة.
رغم تصاعد التحذيرات من العلماء والمنظمات الدولية، لا تزال الاستجابة العربية لأزمة المناخ غير كافية. ورغم بعض المشاريع الطموحة التي أطلقتها دول مثل الإمارات والمغرب في مجال الطاقة المتجددة، إلا أن معظم الدول لا تزال تتعامل مع التغير المناخي كملف ثانوي، وليس كأزمة تتطلب حلولاً فورية وجذرية.
يبقى التغير المناخي مشكلة لا تعترف بالحدود الجغرافية، وأي تأخير في التعامل معها سيؤدي إلى أزمات أشد خطورة في المستقبل. إذا لم تبدأ الحكومات العربية في تبني خطط بيئية شاملة وجريئة، فإن المنطقة قد تواجه كوارث بيئية غير مسبوقة، ستحمل تداعيات اجتماعية واقتصادية لا يمكن تجاهلها. فهل ستكون هناك إرادة سياسية حقيقية لمواجهة التغير المناخي، أم أن المنطقة ستواصل السير نحو مستقبل أكثر قسوة مناخياً؟