تشكل الانتخابات الأوروبية الأخيرة منعطفًا تاريخيًا في المشهد السياسي للقارة، حيث أظهرت تقدمًا ملحوظًا للأحزاب القومية المتطرفة التي تعارض الوحدة الأوروبية وتدعم نهجًا أكثر تشددًا في القضايا الداخلية والخارجية. هذه النتيجة تحمل تداعيات كبيرة، ليس فقط على السياسة الأوروبية الداخلية، ولكن أيضًا على العلاقات مع الشركاء الدوليين مثل الولايات المتحدة، روسيا، ودول المغرب العربي.
أثبتت نتائج الانتخابات أن الأحزاب القومية المتطرفة لم تعد مجرد تيارات هامشية، بل باتت قوة سياسية قادرة على التأثير في صنع القرار الأوروبي. وصول هذه الأحزاب إلى صدارة التصويت في فرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر، واحتلالها مراكز متقدمة في ألمانيا وبولندا وهولندا وإسبانيا، يعكس تحولًا كبيرًا في المزاج الشعبي الأوروبي.
رغم أن الأحزاب المؤيدة للوحدة الأوروبية – وهي التحالف بين المحافظين والاشتراكيين والليبراليين والخضر – لا تزال تمتلك الأغلبية بـ 63% من المقاعد، فإنها خسرت جزءًا كبيرًا من هيمنتها التي كانت تتجاوز 90% في الانتخابات السابقة. هذا يعني أن اليمين المتطرف أصبح قوة معطلة قادرة على التأثير في الأجندة الأوروبية وعرقلة العديد من المبادرات.
معارضة هذه الأحزاب للاندماج الأوروبي تعني مزيدًا من الصعوبات في تمرير الاتفاقيات الأوروبية الموحدة، خاصة فيما يتعلق بالتكامل السياسي والاقتصادي.
هذه الأحزاب تتبنى مواقف معادية للهجرة، مما قد يؤدي إلى سياسات أكثر صرامة تجاه اللاجئين والمهاجرين. إعادة النظر في العلاقات مع دول الجوار: ستتأثر السياسات الأوروبية تجاه دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، حيث تطالب هذه الأحزاب بفرض قيود أكثر صرامة على الاتفاقيات الاقتصادية والهجرة.
يمكن القول إن روسيا من أكبر المستفيدين من هذه الانتخابات، نظرًا لأن معظم الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا تعارض استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا.
قبل اندلاع الحرب، كانت بعض هذه الأحزاب متهمة بتلقي دعم مالي أو لوجستي من موسكو، بينما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، اتخذت مواقف أكثر ليونة تجاه روسيا، داعية إلى إنهاء الحرب دون إدانة واضحة للكرملين. قد تستغل موسكو هذا الصعود لتوسيع نفوذها داخل الاتحاد الأوروبي، لا سيما عبر التأثير على قراراته المستقبلية بشأن العقوبات والمساعدات العسكرية لكييف.
فوز اليمين المتطرف في أوروبا قد يكون مؤشرًا على تصاعد الموجة الشعبوية عالميًا، مما قد يعزز فرص فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة في نوفمبر 2024.
خلال قمة مدريد للأحزاب المتطرفة في مايو الماضي، تم تقديم ترامب كنموذج للقومية الاقتصادية وحماية الهوية الوطنية. وجود موجة متزايدة من التيارات القومية والشعبوية في أوروبا قد يؤدي إلى تقارب أيديولوجي بين ترامب وهذه الأحزاب، ما قد يخلق تحالفًا جديدًا يؤثر على السياسات العالمية.
ستكون دول المغرب العربي، ولا سيما الجزائر والمغرب، من أكثر المتضررين من هذا التحول السياسي الأوروبي، نظرًا لأن هذه الأحزاب تتبنى سياسات معادية للهجرة وتطالب بتشديد الرقابة على الحدود، إضافة إلى عرقلة الاتفاقيات التجارية مع هذه الدول.
حزب “الاسترداد” بزعامة إريك زمور وحزب ماري لوبان معروفان بمواقفهما العدائية تجاه الجزائر، مما قد يعرقل أي جهود لتحسين العلاقات التجارية والسياسية بين الجزائر والاتحاد الأوروبي. حزب فوكس الإسباني اليميني المتطرف يعارض الصادرات الزراعية المغربية ويطالب بتشديد الرقابة على الهجرة القادمة من المغرب، مما قد يخلق توترات جديدة بين الرباط وبروكسل.
الاتحاد الأوروبي يواجه الآن تحديًا داخليًا كبيرًا يتمثل في التوازن بين التعددية السياسية والحفاظ على المبادئ الأساسية للتكتل. سيكون من الصعب تمرير سياسات اقتصادية موحدة في ظل وجود تيارات قومية معارضة للاندماج. التضامن الأوروبي مع اللاجئين والمهاجرين قد يتراجع نتيجة لضغوط الأحزاب القومية التي تدعو إلى فرض مزيد من القيود على الهجرة.
قبل استفتاء بريكست عام 2016، كانت المخاوف المتعلقة بالهجرة والتكامل الأوروبي من بين القضايا الأساسية التي استغلها القوميون للدفع بخروج بريطانيا من الاتحاد.
اليوم، صعود الأحزاب القومية المتطرفة في أوروبا قد يثير تساؤلات حول مستقبل الاتحاد الأوروبي برمته، خاصة إذا طالبت بعض الدول بمراجعة دورها داخل التكتل أو الحد من صلاحيات المفوضية الأوروبية.
من غير المرجح أن نشهد خروج دول أوروبية من الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب، ولكن من المحتمل أن يواجه التكتل إضعافًا تدريجيًا لسلطاته، وتقليل قدرته على فرض سياسات موحدة على جميع الدول الأعضاء. قد نشهد مزيدًا من السياسات “الانتقائية” داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تصبح بعض الدول أكثر استقلالية في قراراتها مقارنة بغيرها.
ما حدث في الانتخابات الأوروبية الأخيرة ليس مجرد تقدم انتخابي لليمين المتطرف، بل هو تحول جوهري في المشهد السياسي الأوروبي.
موسكو تستفيد من الانقسام الأوروبي، حيث تجد في هذه الأحزاب حلفاء غير مباشرين ضد الدعم المستمر لأوكرانيا.
ترامب قد يكون الرابح الأكبر عالميًا إذا ما استمرت الموجة الشعبوية في الصعود.
المغرب والجزائر من بين الخاسرين، حيث قد تواجهان عراقيل اقتصادية وسياسية بسبب صعود أحزاب معادية للهجرة والتعاون مع دول شمال إفريقيا. الاتحاد الأوروبي يواجه أخطر اختبار سياسي منذ عقود، حيث لم تعد مبادئ التكامل والتضامن مضمونة كما كانت من قبل.
إذا استمرت هذه الديناميات، فقد نشهد أوروبا مختلفة تمامًا خلال السنوات المقبلة، أكثر قومية، وأقل اندماجًا، وأكثر عرضة للانقسامات الداخلية، ما قد يعيد تشكيل النظام العالمي بطرق غير متوقعة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ