Spread the love

لماذا لا تزال العاملات في المنازل يعشن في الهامش، بعيدًا عن أي حماية قانونية حقيقية؟ كيف يمكن لمجتمع يدّعي احترام الحقوق أن يُبقي شريحة واسعة من النساء في ظروف أشبه بالعبودية الحديثة؟ وهل يمكن القول إن القوانين العربية تتواطأ مع استغلال العاملات، أم أن المشكلة تكمن في العقلية المجتمعية التي تعتبرهن مجرد “خادمات” لا يملكن الحق في الأمان والكرامة؟

في العديد من الدول العربية، يعتمد ملايين الأسر على العاملات المنزليات، سواء كنّ مواطنات محليات أو مهاجرات من دول أخرى. رغم الدور الأساسي الذي تؤدّيه هؤلاء النساء في تسيير الحياة اليومية للأسر، إلا أنهن غالبًا ما يعملن في ظروف قاسية، حيث يتعرضن للاستغلال، ويتقاضين أجورًا متدنية، ويفتقرن إلى أي حماية قانونية فعلية.

تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية عام 2023 يشير إلى أن العمالة المنزلية في العالم العربي تُعدّ واحدة من أكثر القطاعات هشاشة، حيث تعمل نسبة كبيرة من النساء بدون عقود رسمية، مما يجعلهن عرضة للاستغلال من قبل أصحاب العمل. في بعض الدول، لا تزال القوانين تضع العاملات في المنازل خارج نطاق قوانين العمل التقليدية، مما يعني أنهن محرومات من الضمان الاجتماعي، والتأمين الصحي، وأي شكل من أشكال الحماية القانونية ضد الاستغلال أو العنف.

تقول المحامية المغربية نوال الإدريسي، المختصة في قضايا حقوق العمال، إن المشكلة ليست فقط في غياب القوانين، بل في الثقافة المجتمعية التي تعتبر أن العمل المنزلي ليس وظيفة حقيقية، بل مجرد “خدمة” يمكن استغلالها دون قيود. العاملات غالبًا ما يُجبرن على العمل لساعات طويلة دون راحة، ويتعرضن لمعاملة قاسية، وأحيانًا للعنف الجسدي أو النفسي، دون أن يملكن أي وسيلة للدفاع عن أنفسهن.

الاستغلال والاعتداءات: قصص من الواقع

في بعض الدول الخليجية، حيث يُستقدم عدد كبير من العاملات من آسيا وإفريقيا، تظهر تقارير متكررة عن الانتهاكات التي يتعرضن لها، من المصادرة القسرية لجوازات السفر، إلى ساعات العمل غير المحدودة، وصولًا إلى الاعتداءات الجسدية واللفظية وحتى التحرش الجنسي.

في لبنان، كشفت منظمة العفو الدولية أن بعض العاملات المنزليات يعملن فيما يشبه “السجن المنزلي”، حيث يُمنعن من الخروج، ويتعرضن للضرب أو الحرمان من الطعام كوسيلة للعقاب. في السعودية، رغم الإصلاحات الأخيرة، لا تزال بعض الأسر تفرض على العاملات العمل دون راحة، وتحجب عنهن أجورهن لشهور، مما يجعلهن في وضع أشبه بالعبودية. في المغرب، تُظهر شهادات عاملات محليات أن النساء اللواتي يعملن داخل البيوت غالبًا ما يتعرضن لعنف نفسي ومعاملة دونية، خاصة إذا كنّ قاصرات أو من خلفيات فقيرة.

تقول الناشطة الحقوقية التونسية رُبى الحسن، التي تعمل في دعم حقوق العمالة المنزلية، إن العديد من العاملات يأتين من أوضاع اقتصادية صعبة، ويعتقدن أن العمل في المنازل قد يكون فرصة لتحسين حياتهن. لكن سرعان ما يجدن أنفسهن في بيئة عمل قاسية، بلا أي وسيلة للدفاع عن أنفسهن أو حتى للهروب من الوضع الذي وُضعن فيه.
القوانين بين الإصلاح والتقصير: أين يكمن الخلل؟

رغم أن بعض الدول العربية أدخلت إصلاحات قانونية لحماية العاملات المنزليات، إلا أن هذه الإصلاحات لا تزال غير كافية. المغرب، على سبيل المثال، أصدر قانونًا عام 2016 ينص على ضرورة تسجيل العاملات المنزليات في نظام الضمان الاجتماعي، لكن التطبيق الفعلي ظل ضعيفًا، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الغالبية العظمى من العاملات لا يزلن يعملن بدون عقود رسمية. في لبنان، حاولت الحكومة تعديل نظام “الكفالة”، الذي يُبقي العاملات تحت سيطرة أرباب العمل، لكن التعديلات لم تكن كافية لحماية العاملات من الاستغلال. في الخليج، ورغم بعض التحسينات، لا يزال نظام العمالة المنزلية يمنح أصحاب العمل سلطات واسعة، مما يترك العاملات في وضع هش.

الخبيرة القانونية المصرية هالة منصور ترى أن المشكلة ليست فقط في القوانين، بل في غياب آليات التنفيذ. حتى عندما يتم تمرير قوانين تحمي العاملات، فإن ضعف الرقابة الحكومية، وغياب العقوبات الصارمة ضد المخالفين، يجعل هذه القوانين مجرد حبر على ورق. الحل ليس فقط في التشريعات، بل في تغيير جذري للعقلية المجتمعية التي ترى في العاملات مجرد أدوات للخدمة، وليس كعاملات لهن حقوق واضحة يجب احترامها.

إنهاء استغلال العاملات في المنازل يتطلب إصلاحات شاملة، تبدأ من الاعتراف الكامل بحقوقهن كعاملات، مرورًا بتعديل القوانين لضمان حصولهن على رواتب عادلة وظروف عمل إنسانية، وصولًا إلى تغيير النظرة المجتمعية التي تبرر المعاملة القاسية بحقهن. حملات التوعية المجتمعية، وتوفير مراكز لحماية العاملات اللواتي يتعرضن للعنف، وتشديد العقوبات على أصحاب العمل المخالفين، كلها خطوات ضرورية لضمان حقوق هذه الفئة المهمّشة.

الخبير الاجتماعي الأردني فارس العلي يرى أن حماية العاملات المنزليات ليست مجرد قضية إنسانية، بل هي مؤشر على مدى التزام المجتمعات العربية بحقوق الإنسان. إذا كان المجتمع غير قادر على ضمان حقوق الفئات الأضعف فيه، فهذا يعني أنه لا يزال بعيدًا عن تحقيق العدالة الاجتماعية. إصلاح هذا القطاع لا يخدم العاملات فقط، بل ينعكس على المجتمع ككل، لأنه يعزز فكرة أن كل عمل يجب أن يكون محترمًا، بغض النظر عن طبيعة المهام التي يُؤديها صاحبه.
خاتمة: هل يتغير واقع العاملات في المنازل، أم أن الوضع سيبقى كما هو؟

في ظل استمرار العقلية التقليدية التي تكرّس التمييز ضد العاملات، ومع غياب الإرادة السياسية لإصلاح القوانين بشكل جذري، يبقى السؤال: هل ستظل العاملات المنزليات في العالم العربي عالقات في دائرة الاستغلال، أم أن هناك فرصة حقيقية لتحقيق العدالة لهن؟ التغيير لا يمكن أن يكون مجرد إصلاحات سطحية، بل يحتاج إلى ثورة تشريعية وثقافية تُعيد تعريف العلاقة بين العاملات وأرباب العمل، وتجعل من حقوقهن قضية غير قابلة للمساومة.

error: Content is protected !!