لطالما اعتُبرت الأخلاق والمبادئ القيمية ركيزة المجتمعات، لكن في العصر الحديث، أصبح واضحًا أن هذه القيم ليست ثابتة، بل تتغير وفقًا لعوامل اجتماعية، سياسية، واقتصادية. فهل الأخلاق مجرد بناء اجتماعي يمكن إعادة تشكيله وفقًا لمصالح معينة؟ وكيف يتم التلاعب بالقيم لإعادة صياغة وعي المجتمعات دون أن يدركوا ذلك؟
على مر العصور، لم تكن الأخلاق مجرد تعبير عن “الصواب والخطأ”، بل كانت وسيلة للسيطرة الاجتماعية.
في المجتمعات القديمة، كانت القيم الأخلاقية تُستخدم لتبرير سلطة الحاكم أو الكهنة، حيث كان يُنظر إلى الملوك على أنهم يمثلون إرادة الآلهة.
في العصور الوسطى، استخدمت الكنيسة الأخلاق لضبط المجتمع، حيث كانت بعض الأفعال تُعتبر “هرطقة” قد تؤدي إلى الإعدام، بينما كان الولاء للكنيسة يُعتبر فضيلة عليا.
في العصر الحديث، بدأت الدول تستخدم الأخلاق كأداة للتحكم في المواطنين، من خلال الإعلام، المناهج التعليمية، وحتى القوانين التي تُصاغ وفقًا لمصالح السلطة.
يقول هشام نبعة، الباحث في الفلسفة الاجتماعية، إن “القيم الأخلاقية ليست قوانين طبيعية، بل هي انعكاس لاحتياجات السلطة في كل عصر. القيم التي يُنظر إليها على أنها مطلقة، غالبًا ما تكون مجرد أداة لضبط المجتمعات”.
وسائل الإعلام وإعادة تشكيل القيم: من يحدد ما هو صواب وما هو خطأ؟
اليوم، تلعب وسائل الإعلام والتكنولوجيا الرقمية دورًا محوريًا في تشكيل القيم الأخلاقية. من خلال الحملات الإعلامية، الأفلام، والمسلسلات، يتم تغيير تصورات الناس عن ما هو مقبول وما هو مرفوض.
التلاعب بالعواطف: يتم استخدام القصص الإنسانية والمحتوى العاطفي لجعل القضايا الأخلاقية تبدو وكأنها قضايا وجدانية، بدلاً من أن تكون نقاشات عقلانية.
إعادة تعريف المفاهيم: في كثير من الأحيان، يتم تغيير معنى الكلمات نفسها لجعل بعض السلوكيات تبدو أكثر قبولًا أو أقل جدلية.
التكرار كأداة تأثير: القيم الجديدة لا تُفرض بالقوة، بل يتم تكرارها في المحتوى الإعلامي حتى تصبح “عادية” بالنسبة للناس.
يقول ليلى عزام، الباحثة في الإعلام الرقمي، إن “الطريقة الأكثر فاعلية لتغيير القيم الأخلاقية ليست القمع، بل الغمر التدريجي للمجتمع بمفاهيم جديدة حتى تصبح مألوفة”.
الشركات الكبرى وصناعة الأخلاق: هل تتحكم الرأسمالية في قيمنا؟
لم تعد القيم الأخلاقية تُشكَّل فقط عبر الدين أو الفلسفة، بل أصبحت الشركات الكبرى تلعب دورًا رئيسيًا في تحديد ما هو “جيد” وما هو “سيئ”.
الأخلاق الاستهلاكية: يتم الترويج لفكرة أن النجاح مرتبط بالاستهلاك، وأن السعادة تأتي من امتلاك المنتجات والخدمات الفاخرة.
إعادة تعريف العدالة: يتم دفع مفاهيم مثل “المسؤولية الاجتماعية للشركات” لتبدو وكأنها تعويض عن الاستغلال الرأسمالي، بدلًا من معالجة المشكلة الأساسية.
تسليع الأخلاق: يتم تسويق القيم الأخلاقية مثل حماية البيئة والمساواة كمنتجات، حيث يتم الترويج للشركات التي تدعم هذه القضايا، حتى لو كانت تمارس سياسات غير أخلاقية في مجالات أخرى.
يقول أدهم الدغلي، الباحث في الاقتصاد السياسي، إن “الرأسمالية لا تهتم بالقيم إلا عندما تكون مربحة. الأخلاق اليوم ليست مبادئ، بل أدوات تسويقية يمكن أن تُستخدم لتشكيل وعي الجماهير بما يخدم الشركات”.
في بعض الأحيان، لا يتم التلاعب بالأخلاق فقط من خلال الإعلام والثقافة، بل من خلال القوانين نفسها.
القوانين الانتقائية: بعض الدول تضع قوانين تتناسب مع أجنداتها السياسية، مثل تقييد حرية التعبير بحجة “حماية القيم الأخلاقية”، بينما تتجاهل انتهاكات أخرى تخدم مصالحها.
المعايير المزدوجة: يتم فرض قيم أخلاقية صارمة على بعض الفئات، بينما يتم التغاضي عن أفعال مشابهة تقوم بها النخبة السياسية أو الاقتصادية.
استخدام الأخلاق كذريعة للقمع: في كثير من الدول، يتم التذرع بالأخلاق لفرض الرقابة، تبرير الاعتقالات، أو قمع المعارضين بحجة أنهم يشكلون “تهديدًا أخلاقيًا”.
يقول نادر الأسعد، الخبير في القانون الدستوري، إن “القوانين لا تعكس دائمًا القيم الأخلاقية للمجتمع، بل تعكس أحيانًا إرادة السلطة في ضبط سلوك الأفراد بما يخدم مصالحها”.
هل يمكن بناء أخلاق حقيقية غير خاضعة للتلاعب؟
رغم كل هذه التحديات، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن بناء منظومة أخلاقية غير خاضعة للتلاعب السياسي والاقتصادي؟
البعض يرى أن الحل هو إعادة التفكير في الأخلاق بطريقة عقلانية، بحيث لا تكون القيم مجرد انعكاس للثقافة السائدة، بل قائمة على مبادئ علمية ومنطقية.
آخرون يعتقدون أن الأخلاق يجب أن تكون متعددة ومتغيرة وفقًا للسياق، بحيث يتم تقبل اختلاف القيم بين الثقافات بدلًا من فرض نموذج أخلاقي واحد.
لكن هناك من يجادل بأن الأخلاق يجب أن تظل قائمة على الثوابت الدينية أو الفلسفية، لأن أي محاولة لتغييرها ستؤدي إلى فوضى اجتماعية.
قد يكون من المستحيل العثور على قيم أخلاقية مطلقة، لأن القيم تتغير مع الزمن وتتأثر بالسياسة، الاقتصاد، والتكنولوجيا. لكن الأهم من ذلك هو الوعي بأن الأخلاق ليست دائمًا محايدة، بل قد تكون أداة تُستخدم لتشكيل المجتمعات وفقًا لمصالح معينة.
يبقى السؤال: هل نحن مسيطرون على قيمنا، أم أننا مجرد مستقبلين سلبيين للقيم التي يتم فرضها علينا بطرق غير مرئية؟