منذ فجر الفلسفة، كان السؤال عن أصل الأخلاق أحد أكثر المسائل إثارة للجدل. هل القيم الأخلاقية موجودة بشكل مستقل عن الإنسان، أم أنها مجرد اختراع اجتماعي تطور عبر الزمن؟ إذا كانت الأخلاق موضوعية، فلماذا تختلف من ثقافة إلى أخرى؟ وإذا كانت نسبية، فكيف يمكننا التمييز بين الخير والشر بمعايير ثابتة؟
في الوقت الذي أصبح فيه العلم قادراً على تفسير العديد من الظواهر الطبيعية، لا يزال الجدل حول الأخلاق قائماً. فهل يمكن للعلم أن يحدد لنا ما هو “الخير” وما هو “الشر”؟ أم أن هذه المفاهيم ستظل دائماً خاضعة لوجهات النظر الفلسفية والدينية؟
كان الفلاسفة اليونانيون من أوائل من حاولوا تفسير الأخلاق خارج السياق الديني. رأى سقراط أن الفضيلة هي المعرفة، وأن الإنسان إذا أدرك الصواب فسيفعله بالضرورة. أما أفلاطون، فقد اعتبر أن هناك عالمًا مثالياً للأخلاق، حيث توجد القيم مثل العدل والخير في صورة مطلقة، بعيداً عن التجربة البشرية.
على النقيض من ذلك، رأى أرسطو أن الأخلاق ليست مطلقة، بل تعتمد على الوسط الذهبي بين التطرفين، وهي تقوم على تحقيق الفضيلة من خلال السلوك العملي والتجربة. هذه الفكرة شكلت أساس الأخلاق الغربية لقرون طويلة، لكنها لم تحسم الجدل حول ما إذا كانت الأخلاق حقيقة قائمة بذاتها أم مجرد وسيلة لتنظيم المجتمعات.
في العصور الوسطى، هيمنت الفلسفات الدينية على تفسير الأخلاق، حيث اعتُبرت القيم الأخلاقية جزءاً من إرادة إلهية مطلقة، مما منحها صفة الموضوعية المطلقة. لكن مع دخول عصر التنوير، بدأ الفلاسفة مجدداً في البحث عن تفسير غير ديني للأخلاق.
كانط، نيتشه، وهايدغر: صراع بين المطلق والنسبي
في العصر الحديث، حاول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط إعادة تأسيس الأخلاق على العقل، وليس على الدين أو العواطف. رأى كانط أن هناك “أمراً أخلاقياً مطلقاً” (Categorical Imperative) يجب أن يكون قاعدة عامة لجميع البشر، بمعزل عن رغباتهم أو مصالحهم الشخصية.
لكن مع فريدريك نيتشه، انقلبت الفكرة رأساً على عقب. رأى نيتشه أن الأخلاق ليست سوى “وهم” صنعه الضعفاء لحماية أنفسهم من الأقوياء، وأن القيم التقليدية مثل التواضع والتضحية هي مجرد أدوات للسيطرة. بدلاً من ذلك، دعا نيتشه إلى خلق “أخلاق جديدة” تتناسب مع الإنسان الأعلى (Übermensch)، القادر على تجاوز القيود الاجتماعية والدينية.
أما هايدغر، فقد رأى أن الأخلاق يجب أن تكون نابعة من تجربة الوجود نفسه، وليس من مبادئ عقلية مجردة، مما أعاد الجدل إلى طبيعته الأولية: هل الأخلاق شيء نكتشفه أم شيء نخلقه؟
هل الأخلاق جزء من الطبيعة البشرية؟
مع تطور علم النفس وعلم الأحياء، بدأ العلماء في البحث عن أصل بيولوجي للأخلاق. بعض الدراسات تشير إلى أن بعض السلوكيات الأخلاقية مثل التعاطف، والتعاون، والإيثار، ليست مقتصرة على البشر، بل يمكن العثور عليها في الحيوانات أيضاً.
القردة مثلاً، تظهر سلوكيات تعاونية، وتبدي تعاطفاً مع أفراد مجموعتها. حتى الفئران أظهرت استعداداً لمساعدة فئران أخرى في التجارب العلمية. هذا دفع بعض العلماء إلى الاعتقاد بأن الأخلاق ليست مجرد بناء اجتماعي، بل هي جزء من التطور البشري، نشأت لضمان بقاء المجموعات وتعزيز التعاون.
يقول نادر حاتم، الباحث في علم الأعصاب، إن “هناك أدلة متزايدة على أن الدماغ البشري مبرمج للتفاعل الأخلاقي، حيث تلعب مناطق معينة مثل القشرة الجبهية دوراً رئيسياً في اتخاذ القرارات الأخلاقية. لكن هذا لا يعني أن الأخلاق مطلقة، بل إن التجربة الاجتماعية تلعب دوراً أساسياً في تشكيلها”.
لطالما كان الدين أحد المصادر الأساسية للأخلاق، حيث تقدم الأديان مجموعة من القواعد والتوجيهات التي تحدد ما هو صواب وما هو خطأ. لكن في المجتمعات العلمانية الحديثة، أصبح السؤال هو ما إذا كان يمكن للأخلاق أن تستمر بدون سند ديني.
بعض الفلاسفة يرون أن الأخلاق يمكن أن تستند إلى العقل وحده، كما طرح كانط، أو إلى العواقب كما يرى النفعيون مثل جون ستيوارت ميل، حيث يكون الفعل الأخلاقي هو الذي يحقق أكبر قدر من المنفعة لأكبر عدد من الناس.
لكن آخرين يرون أن التخلي عن الدين يؤدي إلى انهيار المعايير الأخلاقية، حيث لا يعود هناك أساس مطلق يمكن الرجوع إليه. يقول الدكتور هيثم زيدان، الباحث في علم الاجتماع بجامعة الرباط، إن “المجتمعات التي تحاول بناء أخلاق بلا دين تواجه معضلة كبيرة، لأن الأخلاق تصبح نسبية تماماً، مما يفتح الباب أمام تبرير أي شيء تحت غطاء السياق الاجتماعي أو المصلحة العامة”.
إذا كانت الأخلاق اختراعاً بشرياً، فهل يمكننا العيش بدونها؟ وإذا كانت حقيقة موضوعية، فلماذا نراها تتغير عبر الزمن؟ ربما يكون الجواب أن الأخلاق ليست مطلقة ولا نسبية بالكامل، بل هي مزيج من الطبيعة والتنشئة، من العقل والمجتمع، ومن الحاجة إلى البقاء والرغبة في العدل.
قد لا يكون السؤال الأهم هو ما إذا كانت الأخلاق حقيقية أم لا، بل ما إذا كنا نستطيع العيش بدونها. وبينما تستمر الفلسفة والعلم في البحث عن إجابة، يظل الواقع واضحاً: حتى لو لم تكن الأخلاق مطلقة، فإنها تظل الأساس الذي يبني عليه البشر مجتمعاتهم، سواء كانوا يؤمنون بأنها هبة إلهية، أو مجرد أداة تطورية لضمان البقاء.