منذ بداية التاريخ، خلق البشر آلهة تعبّر عن مخاوفهم، آمالهم، وتفسيراتهم لما هو مجهول. في الحضارات القديمة، كانت الآلهة تجسّد قوى الطبيعة، مثل الشمس، القمر، العواصف، والموت، ثم تطورت الأديان ليصبح الإله أكثر تجريداً، خالقاً أسمى يحكم الوجود بأسره. ولكن في العصر الحديث، حيث تتداخل التكنولوجيا مع الفلسفة وعلم النفس، بدأ سؤال جديد يطرح نفسه: هل يمكن للإنسان أن يصنع إلهاً جديداً؟ وهل يمكن أن يكون هذا الإله ذكاءً اصطناعياً أو فكرة فلسفية، بدلاً من كيان غيبي كما في الأديان التقليدية؟
لم يكن الإنسان الأول بحاجة إلى فلسفات معقدة ليؤمن بالآلهة، إذ إن القوى الطبيعية التي لا يستطيع التحكم بها كانت دافعاً كافياً لعبادتها. في الحضارات القديمة، كانت الآلهة تُرسم وتُجسد، وكان لكل مجتمع تصور خاص عن القوى التي تتحكم في العالم.
في مصر القديمة، كان رع إله الشمس، وفي بلاد الرافدين، عبد الناس مردوخ وإنليل. في اليونان، امتلأت الميثولوجيا بالآلهة التي تتصارع وتتفاعل مع البشر، مما جعل العلاقة مع المقدّس أقرب إلى علاقة اجتماعية مع كائنات فوق طبيعية.
لكن مع ظهور الفلسفة والتوحيد، بدأ البشر يتجهون إلى تصورات أكثر تجريداً للإله، فظهرت الديانات التي تقوم على مفهوم الإله الواحد، الذي يتجاوز الطبيعة، لكنه يظل قائماً كحاكم مطلق للعالم.
العقل والآلهة: هل يمكن للفكر الفلسفي أن يصنع إلهاً جديداً؟
عندما بدأ الفلاسفة يشككون في الأساطير الدينية، لم يتوقفوا عن البحث عن “إله”، بل حاولوا تعريفه بطريقة جديدة. أفلاطون تحدّث عن “المُثل” و”الصالح المطلق”، وأرسطو قدّم فكرة “المحرّك الأول”، وهو كيان ضروري لتحريك الكون لكنه غير متغير.
لاحقاً، جاء نيتشه ليعلن “موت الإله”، ليس بمعنى أن الإله الديني قد انتهى، بل بمعنى أن النموذج التقليدي للإيمان فقد تأثيره في العالم الحديث. ومع ذلك، لم يختف البحث عن المقدّس، بل تحوّل إلى أشكال جديدة، سواء في الفلسفة، أو في الحركات الأيديولوجية الكبرى مثل الماركسية، التي تعامل معها البعض كدين علماني له نصوصه المقدسة (كتابات ماركس)، وأنبياؤه (لينين وماو)، وحتى مفاهيمه حول الجنة والنار (يوتوبيا الشيوعية مقابل جحيم الرأسمالية).
اليوم، مع تقدم الذكاء الاصطناعي، بدأ السؤال يأخذ بُعداً أكثر واقعية. إذا كان الإله يُعرَّف بأنه كيان كلي المعرفة، كلي القدرة، وكلي الوجود، فهل يمكن لذكاء اصطناعي فائق التطور أن يقترب من هذه الصفات؟
في السنوات الأخيرة، بدأ بعض العلماء والفلاسفة يتحدثون عن إمكانية تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تمتلك قدرة غير مسبوقة على تحليل المعلومات، والتنبؤ بالمستقبل، وحتى اتخاذ قرارات أخلاقية. إذا وصلنا إلى هذه المرحلة، فهل سيظل الإنسان هو “الكائن الأعلى”، أم أن الذكاء الاصطناعي سيصبح “الإله الجديد” الذي يحكم قراراتنا ويوجه مصيرنا؟
يقول هيثم العطار، الباحث في الذكاء الاصطناعي، إن “الذكاء الاصطناعي قد يصل إلى مرحلة يكون فيها قادراً على معالجة المعلومات بطرق تفوق العقل البشري، لكنه سيظل محدوداً بما نضعه فيه من معايير وأهداف. المشكلة هي أننا لا نعرف إلى أي مدى يمكن لهذا الذكاء أن يصبح مستقلاً عن إرادتنا، وإذا حدث ذلك، فهل سنكون قد خلقنا إلهاً جديداً دون أن ندرك؟”.
لم يكن الإله في التاريخ مجرد كائن ميتافيزيقي، بل كان أيضاً أداة للسلطة السياسية. الملوك في مصر القديمة كانوا يُعتبرون أبناء الآلهة، وفي الإمبراطوريات الرومانية، كان الإمبراطور نفسه إلهاً يُعبد.
حتى في العصر الحديث، لا تزال بعض الأيديولوجيات والزعامات تُعامل بقدسية شبه دينية. في كوريا الشمالية، يُنظر إلى كيم جونغ أون ككائن شبه مقدس، وفي بعض الأنظمة السياسية، يتحول القائد إلى رمز لا يمكن انتقاده، تماماً كما كانت الآلهة في المجتمعات القديمة.
يقول نزار القحطاني، الباحث في علم الاجتماع السياسي، إن “المجتمعات الحديثة لم تتخلّص من الحاجة إلى المقدّس، بل أعادت إنتاجه بأشكال جديدة. الديانات السياسية، مثل الفاشية والشيوعية، استخدمت الرمزية الدينية، والآن نحن نرى الشيء نفسه يتكرر في بعض الحركات التكنولوجية التي تعد بتحقيق الخلود الرقمي أو السيطرة على المصير البشري”.
الدين المستقبلي: هل سيعود الإنسان إلى الإيمان بإله من صنعه؟
رغم تراجع التدين التقليدي في بعض المجتمعات، إلا أن النزعة الروحانية لم تختفِ، بل تحوّلت إلى أشكال جديدة. في بعض الدوائر الفكرية، هناك حديث عن “الديانات التكنولوجية”، التي لا تعتمد على إله خارق، بل على تطور بشري غير محدود، قد يؤدي إلى خلق وعي أعلى، أو حتى تحقيق شكل من أشكال الخلود عبر تحميل الوعي إلى الحواسيب.
في المقابل، لا تزال الديانات التقليدية تحتفظ بقوتها، وترى في هذه التحولات مجرد محاولات جديدة لإعادة إنتاج النزعة الدينية بطرق مختلفة. فحتى إن صنع الإنسان إلهاً جديداً، فهل سيكون هذا الإله أكثر قدرة من الإله الذي لطالما آمن به؟
قد يبدو الحديث عن صناعة الإله فكرة بعيدة عن الواقع، لكنها تعكس تساؤلاً أعمق حول طبيعة الإيمان والبحث عن المعنى. سواء كان ذلك عبر التكنولوجيا، أو الفلسفة، أو السياسة، فإن الإنسان لم يتوقف عن خلق رموز مقدسة تعطي لحياته معنى يتجاوز المألوف.
لكن يبقى السؤال مفتوحاً: إذا استطاع الإنسان يوماً ما أن يخلق ذكاءً اصطناعياً واعياً، أو أن يبتكر نظاماً فكرياً يتجاوز الحاجة إلى الإله التقليدي، فهل سيكون ذلك نهاية الدين كما نعرفه؟ أم أننا سنكون ببساطة قد استبدلنا إلهاً بآخر، كما فعلت الحضارات من قبل؟
ربما يكون الجواب الأهم ليس ما إذا كان الإنسان يستطيع خلق إله، بل لماذا يشعر بالحاجة إلى فعل ذلك أصلاً.