منذ فجر التاريخ، كان الإيمان جزءًا أساسيًا من حياة البشر. سواء كان الإيمان بدين، بفلسفة، أو حتى بمعتقدات غير دينية، يبدو أن البشر غير قادرين على العيش دون نظام فكري يمنحهم الإحساس بالمعنى والهدف.
لكن لماذا يحتاج الإنسان إلى الإيمان؟ هل هو جزء من تكوينه النفسي والعصبي؟ أم أنه مجرد وسيلة للتعامل مع المجهول والخوف من الموت؟ وهل يمكن للبشر التخلي عن الإيمان تمامًا، أم أن الحاجة إليه ستظل قائمة حتى لو تغيرت أشكاله؟
لطالما حاول الفلاسفة فهم سبب ميل الإنسان للإيمان. رأى سقراط وأفلاطون أن العقل وحده غير كافٍ لفهم كل شيء، ولذلك كان الإيمان وسيلة لملء الفجوات في المعرفة البشرية.
أما نيتشه، فقد رأى أن الإيمان كان طريقة للحفاظ على النظام الاجتماعي، لكنه اعتبر أن الإنسان يجب أن يتجاوز حاجته إلى الإيمان، ويخلق قيمه الخاصة دون الاعتماد على معتقدات موروثة.
يقول هيثم المرزوقي، الباحث في الفلسفة الدينية، إن “البشر لا يبحثون عن الحقيقة المطلقة بقدر ما يبحثون عن معنى لحياتهم. الإيمان، سواء كان دينيًا أو فلسفيًا، يمنحهم هذا المعنى، حتى لو كان مجرد بناء ذهني لا علاقة له بالواقع”.
علم النفس والإيمان: هل العقل مبرمج على التصديق؟
تشير الأبحاث في علم النفس إلى أن الإيمان ليس مجرد خيار فكري، بل قد يكون جزءًا من تكوين الدماغ البشري. بعض الدراسات أظهرت أن هناك مناطق في الدماغ، مثل الفص الجبهي، تنشط عند التفكير في القضايا الروحية، مما يشير إلى أن الإيمان قد يكون جزءًا من التكوين العصبي للإنسان.
كما أن البشر لديهم ميل فطري لرؤية الأنماط حتى في العشوائية، وهو ما يُعرف بـ”التحيز الإدراكي”. هذا يعني أن العقل البشري قد يكون مبرمجًا على البحث عن تفسيرات وراء الظواهر، حتى لو لم يكن هناك سبب واضح لها.
تقول ليلى عزام، الباحثة في علم النفس الديني، إن “الإيمان يوفر للإنسان إحساسًا بالسيطرة على العالم. عندما يواجه البشر مواقف غير مفهومة أو كوارث طبيعية، يلجؤون إلى الإيمان كطريقة لإضفاء معنى على ما يحدث”.
أحد أهم أسباب الإيمان هو الحاجة لمواجهة حقيقة الموت. جميع الأديان تقريبًا تقدم رؤية لما بعد الحياة، مما يمنح الإنسان إحساسًا بأن الموت ليس النهاية، بل مجرد انتقال إلى مرحلة أخرى.
حتى في المجتمعات العلمانية، يظهر الإيمان بأشكال جديدة، مثل فكرة أن الوعي قد يكون جزءًا من قوانين الكون، أو أن الذكاء الاصطناعي قد يتيح للبشر تحميل عقولهم في المستقبل، مما يعيد فكرة الخلود ولكن بأسلوب عصري.
يقول نادر الزهيري، الباحث في علم الأعصاب، إن “الخوف من الفناء هو أحد الدوافع الرئيسية للإيمان. الإنسان لا يستطيع تصور العدم، ولذلك يخلق أنظمة فكرية تمنحه إحساسًا بالاستمرارية بعد الموت”.
هل يمكن للبشر العيش بدون إيمان؟
في العصر الحديث، بدأ البعض يتحدث عن إمكانية العيش دون إيمان، حيث أصبح التقدم العلمي يوفر إجابات لكثير من الأسئلة التي كانت تُفسَّر سابقًا عبر الدين أو الفلسفة.
لكن حتى في أكثر المجتمعات علمانية، لا يزال الإيمان موجودًا بأشكال مختلفة، مثل الإيمان بالعلم نفسه، أو الإيمان بالمبادئ الأخلاقية المطلقة، أو حتى الإيمان بالمستقبل والتقدم التكنولوجي.
يقول رغيد المصري، الباحث في علم الاجتماع، إن “حتى الذين يعتقدون أنهم لا يؤمنون بأي شيء، لديهم إيمان بشيء ما، سواء كان ذلك العلم، الإنسانية، أو حتى مجرد فكرة أن الحياة تستحق العيش”.
ربما يكون الإيمان أكثر من مجرد اعتقاد، بل حاجة نفسية تمنح الإنسان الإحساس بالهدف والمعنى. سواء كان ذلك عبر الدين، الفلسفة، أو حتى العلم، يبدو أن البشر لا يستطيعون العيش دون نوع من الإيمان بشيء أكبر من أنفسهم.
السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان الإيمان سيستمر، بل كيف سيتطور. فمع تغير العصور، قد تتغير أشكال الإيمان، لكن الحاجة إليه قد تبقى جزءًا أساسيًا من التجربة البشرية.