لطالما اعتُبر التاريخ مصدرًا لفهم الماضي، لكنه في الوقت ذاته أداة تُستخدم لتشكيل الحاضر والتأثير على المستقبل. فهل يمكن للتاريخ أن يكون حياديًا تمامًا، أم أنه دائمًا يخضع للتفسيرات الأيديولوجية والسياسية؟
إذا كانت الأحداث التاريخية تُروى من قبل المنتصرين، فهل يمكن الوثوق بها؟ وهل من الممكن إعادة كتابة التاريخ بطريقة محايدة، أم أن كل كتابة تاريخية تحمل تحيزًا ضمنيًا؟
التاريخ كأداة للسلطة: من يروي القصة؟
منذ القدم، استخدمت السلطات السياسية والتقاليد الثقافية التاريخ كوسيلة لبناء هوية قومية وتبرير أفعالها. الإمبراطوريات القديمة، مثل الإمبراطورية الرومانية والصينية، لم تكن تسجل فقط الأحداث، بل كانت تعيد تشكيلها لخدمة أجنداتها السياسية.
في العصور الحديثة، استخدمت الأنظمة الاستبدادية والمؤسسات الأيديولوجية وسائل الإعلام والمناهج التعليمية لإعادة صياغة التاريخ بما يتناسب مع رؤيتها للعالم. حتى في الديمقراطيات، هناك عمليات انتقائية لكيفية تقديم التاريخ في المدارس والكتب الأكاديمية.
يقول هيثم المرزوقي، الباحث في التاريخ السياسي، إن “التاريخ لا يُكتب فقط لتسجيل الأحداث، بل لتوجيه المجتمعات نحو توجهات معينة. عندما تتحكم السلطة في كيفية سرد الماضي، فإنها تتحكم أيضًا في رؤيتنا للمستقبل”.
في الفلسفة، هناك جدل طويل حول ما إذا كان يمكن للتاريخ أن يكون موضوعيًا.
رأى كارل ماركس أن التاريخ ليس مجرد سرد محايد، بل هو انعكاس لصراع الطبقات، حيث يتم التلاعب بالسرديات التاريخية لتبرير سلطة النخب.
بينما اعتبر ميشيل فوكو أن التاريخ ليس سوى مجموعة من “الخطابات” التي يتم تشكيلها وفقًا لعلاقات القوة داخل المجتمعات.
أما ليو تولستوي، فقد رأى أن الأفراد العاديين هم من يصنعون التاريخ، وليس القادة وحدهم، مما يعني أن أي سرد يركز فقط على “العظماء” هو اختزال للحقيقة.
لكن السؤال الحقيقي هنا هو: هل يمكن الوصول إلى “حقيقة تاريخية” مجردة؟ أم أن كل محاولة لفهم التاريخ هي بالضرورة محملة بتحيزات ثقافية وسياسية؟
يقول نادر الأسعد، الباحث في الفلسفة التاريخية، إن “التاريخ ليس مجرد قائمة من الوقائع، بل هو بناء سردي. حتى عندما نعتقد أننا نقرأ التاريخ بشكل موضوعي، فإننا في الحقيقة نعيد إنتاج منظور معين للحقيقة”.
إعادة كتابة التاريخ: تصحيح للأخطاء أم تلاعب جديد؟
في العقود الأخيرة، بدأت بعض الدول والمؤسسات الأكاديمية في إعادة النظر في الروايات التاريخية الرسمية، بهدف تقديم صورة أكثر إنصافًا.
في الولايات المتحدة، بدأت مراجعة تاريخ العبودية والاستعمار، حيث يتم الآن التركيز على دور المجتمعات المهمشة بدلاً من الاقتصار على السرديات التقليدية التي تمجد الشخصيات السياسية الكبرى.
في أوروبا، هناك إعادة نظر في التاريخ الاستعماري، حيث أصبحت هناك محاولات للاعتراف بالجرائم التي ارتكبتها الإمبراطوريات السابقة ضد الشعوب المستعمرة.
في بعض الدول العربية، بدأت إعادة كتابة التاريخ المعاصر بطرق تختلف عن السرديات التي دعمتها الأنظمة الحاكمة في الماضي.
لكن هل هذه المحاولات مجرد تصحيح للحقائق، أم أنها تلاعب جديد بالماضي لخدمة توجهات سياسية جديدة؟
يقول جمال النميري، الباحث في علم الاجتماع التاريخي، إن “إعادة كتابة التاريخ قد تكون ضرورية لتصحيح التحيزات، لكنها أيضًا قد تتحول إلى نوع جديد من التلاعب، حيث يتم استبدال تحيز قديم بآخر جديد”.
التكنولوجيا والتاريخ: هل يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم رؤية أكثر حيادية؟
مع تطور الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، بدأت بعض الجامعات والمؤسسات البحثية في استخدام هذه الأدوات لدراسة الأنماط التاريخية وتحليل النصوص القديمة بطرق غير مسبوقة.
يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل ملايين الوثائق التاريخية لاستخراج أنماط غير مرئية للبشر.
يمكن أن يساعد في كشف التحيزات في الكتابات التاريخية، من خلال مقارنة مصادر متعددة من وجهات نظر مختلفة.
قد يتمكن في المستقبل من تقديم “سرد تاريخي محايد”، إذا تم تطويره بطريقة تمنع التحيز البشري من التأثير على برمجته.
لكن هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون موضوعيًا تمامًا، أم أنه سيعكس تحيزات من قاموا بتطويره؟
يقول رضوان الجزائري، الخبير في تحليل البيانات التاريخية، إن “الذكاء الاصطناعي قد يكون أداة قوية في كشف التلاعب بالسرديات التاريخية، لكنه في النهاية لن يكون محايدًا بالكامل، لأنه يعتمد على البيانات التي يقدمها البشر، والتي تكون دائمًا محملة بتحيزات”.
قد يكون من المستحيل تقديم تاريخ “نقي” خالٍ من التحيزات، لأن أي سرد تاريخي هو نتاج رؤية معينة للعالم. لكن هذا لا يعني أن كل رواية تاريخية هي مجرد دعاية، بل يعني أن علينا دائمًا أن نكون واعين بالتحيزات الموجودة في المصادر التي نعتمد عليها.
في النهاية، ربما لا يكون السؤال هو ما إذا كان يمكن للتاريخ أن يكون حياديًا، بل كيف يمكننا التعامل معه بطريقة نقدية، بحيث لا نقع ضحية لروايات مشوهة، سواء كانت قديمة أو حديثة.