في قلب أعقد المسائل الفلسفية والعلمية يكمن السؤال الذي لم يحسم بعد: ما هو الوعي؟ وهل يمكن تفسيره فقط من خلال العمليات العصبية داخل الدماغ، أم أن هناك عنصراً غير مادي يجعلنا نشعر وندرك ذواتنا والعالم من حولنا؟ هذه المسألة ليست مجرد سؤال فلسفي نظري، بل تمتد إلى أعمق طبقات العلم الحديث، بدءاً من علم الأعصاب إلى الفيزياء والذكاء الاصطناعي.
يعد الوعي من أكثر المفاهيم غموضاً في الفكر البشري. فمنذ العصور القديمة، حاول الفلاسفة والعلماء تقديم تفسيرات مختلفة لطبيعته. الفيلسوف اليوناني أفلاطون كان يرى أن العقل والروح منفصلان عن الجسد، وهو رأي استمر لاحقاً في الفلسفة الدينية التي رأت في الوعي تجسيداً للروح الإلهية داخل الإنسان. مع تطور الفكر الفلسفي، جاءت الرؤية الديكارتية التي فصلت بين “العقل” و”المادة”، معتبرة أن هناك جوهراً غير مادي مسؤول عن التفكير والشعور. لكن مع تقدم العلوم في القرون الأخيرة، بدأت النظريات المادية تكتسب زخماً، حيث سعت إلى تفسير الوعي بوصفه مجرد نتيجة لتفاعلات كيميائية وعصبية داخل الدماغ.
من ديكارت إلى العلم الحديث: كيف تطور فهمنا للوعي؟
ظل مفهوم الوعي محكوماً لفترة طويلة بفرضيات فلسفية لا يمكن اختبارها علمياً. كان الفيلسوف رينيه ديكارت من أبرز المدافعين عن ثنائية العقل والجسد، حيث رأى أن العقل مستقل عن المادة، لكنه يتفاعل معها عبر الغدة الصنوبرية في الدماغ. لكن هذا التفسير لم يكن مقنعاً للجميع، إذ تساءل منتقدوه عن كيفية تفاعل جوهر غير مادي مع نظام فيزيائي مثل الجسد.
مع تقدم العلم، بدأت الرؤية المادية تفرض نفسها، لا سيما مع الاكتشافات في علم الأعصاب، حيث ظهر اتجاه يرى أن كل نشاط ذهني، مهما بدا معقداً، يمكن تفسيره استناداً إلى العمليات العصبية. في القرن العشرين، قدم علماء مثل فرانسيس كريك، أحد مكتشفي بنية الحمض النووي، فرضيات تفترض أن الوعي ليس إلا نتيجةً لنشاط معين في الدماغ، دون حاجة إلى أي عناصر غير مادية. ومع ذلك، بقيت هناك فجوة بين فهم العمليات العصبية وإدراك التجربة الذاتية التي يعيشها الإنسان، وهو ما أطلق عليه الفيلسوف ديفيد تشالمرز “مشكلة الوعي الصعبة”.
مشكلة الوعي الصعبة: لماذا لا يمكن اختزال الشعور في عمليات عصبية؟
على الرغم من التطور الكبير في علوم الدماغ، فإن مشكلة تفسير الشعور الذاتي ما زالت قائمة. لماذا نشعر بالألم بدلاً من مجرد الاستجابة له؟ لماذا نختبر الألوان والموسيقى والأحاسيس بدلاً من أن نكون مجرد آلات تتفاعل مع البيئة؟ هذه الأسئلة لا تزال عالقة، إذ إن معظم التفسيرات العلمية الحالية، رغم قدرتها على شرح كيفية عمل الدماغ، تعجز عن تفسير سبب وجود تجربة شعورية مصاحبة لهذا النشاط العصبي.
يرى الدكتور نزار العطار، أستاذ الفلسفة الإدراكية بجامعة القاهرة، أن “القول بأن الوعي مجرد نتاج مادي للدماغ هو قفزة غير مبررة علمياً، لأننا حتى الآن لا نملك أي نموذج رياضي أو تجريبي يوضح كيف يمكن للعمليات العصبية أن تنتج خبرة ذاتية”. ويضيف: “نحن نعلم أن هناك ارتباطاً بين الدماغ والوعي، لكن العلاقة بينهما لا تزال لغزاً. تماماً كما أن معرفة كيفية عمل محرك السيارة لا تعني أننا فهمنا طبيعة الحركة ذاتها”.
في المقابل، يرفض الدكتور طارق المنجد، الباحث في علم الأعصاب بجامعة بيروت، هذا الطرح، معتبراً أن المشكلة ليست في طبيعة الوعي، بل في محدودية أدواتنا العلمية الحالية. “قبل مئات السنين، كان يُعتقد أن الحياة نفسها تحتوي على عنصر غامض غير مادي، لكننا أدركنا لاحقاً أنها مجرد عمليات بيولوجية يمكن فهمها علمياً. الأمر نفسه ينطبق على الوعي، فما زلنا في بداية الطريق لفهمه، لكنه حتماً نتيجة مباشرة للنشاط العصبي”.
نظريات بديلة: هل يمكن تجاوز المادية الصرفة؟
رغم هيمنة الاتجاه المادي، ظهرت بعض النظريات التي تحاول التوفيق بين المادية والروحانية. من بين هذه النظريات، نجد “نظرية المعلومات المتكاملة”، التي تفترض أن الوعي ينشأ نتيجة تعقيد معين في بنية المعلومات داخل الدماغ، وليس بالضرورة كنتيجة مباشرة للنشاط العصبي. وفقاً لهذه النظرية، فإن أي نظام يحتوي على مستوى معين من التعقيد قد يمتلك درجة من الوعي، حتى لو لم يكن بيولوجياً، ما يفتح الباب أمام احتمالات مثيرة، مثل إمكانية وجود وعي لدى الذكاء الاصطناعي أو حتى لدى بعض الكائنات غير البشرية بطريقة لم نكن نتخيلها من قبل.
في المقابل، تقترح بعض التفسيرات الأخرى، مثل نظرية “النموذج الكمومي للوعي”، أن هناك صلة بين العمليات الكمية الدقيقة داخل الدماغ ونشوء الوعي، وهي فرضية لا تزال محل جدل بين العلماء. ويذهب بعض الفلاسفة إلى اعتبار أن هناك بُعداً لم يتم اكتشافه بعد في طبيعة العقل، وأن الإصرار على تفسيره من خلال النظريات المادية فقط قد يكون ضرباً من التبسيط المخل.
الذكاء الاصطناعي ومستقبل الوعي: هل يمكن محاكاته؟
مع تطور الذكاء الاصطناعي، أصبح السؤال عن طبيعة الوعي أكثر إلحاحاً. هل يمكن أن يمتلك الذكاء الاصطناعي وعياً حقيقياً؟ أم أنه سيظل مجرد آلة تحاكي العمليات الذهنية البشرية دون أن تمتلك تجربة شعورية حقيقية؟ البعض يرى أن الوصول إلى “وعي اصطناعي” ليس سوى مسألة وقت، بينما يرى آخرون أن المشكلة ليست في المعالجة المعلوماتية، بل في وجود عنصر مفقود لا تستطيع الخوارزميات محاكاته.
يرى الدكتور العطار أن “الذكاء الاصطناعي، مهما تطور، لن يمتلك وعياً بالمعنى الحقيقي، لأنه لا يعيش تجربة ذاتية، بل يقوم فقط بمعالجة البيانات”، بينما يعتقد الدكتور المنجد أن “الفرق بين الذكاء الاصطناعي والعقل البشري ليس جوهرياً كما نتصور، وإذا تمكنا من استنساخ بنية الدماغ بدقة، فقد نصل إلى أنظمة تمتلك وعياً حقيقياً”.
رغم كل التطورات العلمية والفلسفية، يظل سؤال الوعي من أعقد الألغاز التي تواجه البشرية. هل سيتمكن العلم يوماً من كشف كل أسراره وإثبات أنه مجرد ظاهرة مادية؟ أم أن هناك بعداً آخر للعقل البشري لم يتم اكتشافه بعد؟ يبدو أن هذا الجدل سيبقى مستمراً، وربما يكون الوعي نفسه هو الذي يعي استحالة حله.