Spread the love

في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة البحث عن مصادر طاقة نظيفة ومستدامة، تبرز الصحارى كواحدة من أكثر المناطق الواعدة لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية والرياح. تمتلك العديد من الدول العربية مساحات شاسعة من الأراضي القاحلة، حيث يمكن تسخير أشعة الشمس الحارقة والرياح القوية لإنتاج طاقة نظيفة تكفي لتلبية الاحتياجات المحلية، بل وتصديرها إلى دول أخرى. لكن رغم الفرص الكبيرة، لا تزال هذه الإمكانات غير مستغلة بالكامل. فهل يمكن أن تصبح الصحارى العربية محطات ضخمة للطاقة المتجددة، أم أن التحديات التقنية والاقتصادية ستقف عائقًا أمام هذا التحول؟

تشير تقارير “وكالة الطاقة الدولية” إلى أن الصحراء الكبرى وحدها يمكنها إنتاج طاقة شمسية تكفي لتزويد العالم كله بالكهرباء، لو تم استغلال 1% فقط من مساحتها. في الدول العربية، تمتلك الجزائر، ومصر، والسعودية، والإمارات، والمغرب مساحات شاسعة من الأراضي القاحلة، التي يمكن تحويلها إلى مزارع ضخمة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

المغرب، الذي يعد رائدًا في مجال الطاقة المتجددة في العالم العربي، أنشأ “مجمع نور للطاقة الشمسية” في ورزازات، وهو واحد من أكبر المشاريع الشمسية في العالم، حيث يمكنه تزويد أكثر من مليون منزل بالكهرباء النظيفة. في السعودية، تم الإعلان عن مشروع “سدير للطاقة الشمسية”، الذي يعد من أكبر محطات الطاقة الشمسية في المنطقة، فيما تستثمر الإمارات بشكل مكثف في مشاريع مماثلة، مثل “مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية” في دبي.

يقول الدكتور إلياس النمري، أستاذ هندسة الطاقة المتجددة بجامعة الرباط، إن “الصحارى العربية لديها إمكانيات مذهلة لتصبح المصدر الرئيسي للطاقة المتجددة، لكن المشكلة تكمن في أن معظم هذه المشاريع لا تزال تعتمد على التمويل الحكومي، في حين أن الاستثمار الخاص لا يزال محدودًا بسبب التحديات اللوجستية والتكاليف الأولية المرتفعة”.

التحديات: لماذا لم تتحول الصحارى إلى محطات طاقة عالمية؟

رغم الإمكانيات الضخمة، لا تزال هناك تحديات كبيرة تعيق استغلال الصحارى كمصدر رئيسي للطاقة. أول هذه التحديات هو التكلفة الأولية المرتفعة، حيث تتطلب محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح استثمارات ضخمة في البنية التحتية، مثل إنشاء محطات التحويل ونقل الكهرباء لمسافات طويلة.

التحدي الآخر يتمثل في التخزين ونقل الطاقة، حيث أن الطاقة الشمسية لا تعمل إلا خلال النهار، مما يستدعي استخدام بطاريات تخزين ضخمة، وهي تقنية لا تزال مرتفعة التكلفة. أما طاقة الرياح، فتواجه مشكلة التقلب في سرعة الرياح، مما يجعل الاعتماد عليها كمصدر وحيد للطاقة أمرًا غير موثوق به.

كما أن التغيرات المناخية تؤثر على إنتاجية الطاقة المتجددة في بعض المناطق الصحراوية، حيث قد تؤدي العواصف الرملية إلى تغطية الألواح الشمسية بالأتربة، مما يقلل من كفاءتها، ويتطلب عمليات صيانة مستمرة.

يؤكد الدكتور سليم الفهري، الباحث في نظم الطاقة بجامعة تونس، أن “التحدي الأكبر أمام الطاقة الشمسية في الصحارى العربية ليس فقط التكلفة، بل أيضاً البنية التحتية اللازمة لنقل الكهرباء من المحطات إلى المناطق السكنية والصناعية. بدون استثمارات ضخمة في شبكات الكهرباء الذكية، لن يكون بالإمكان استغلال هذه الموارد بكفاءة”.

في بعض الدول، تم بالفعل تحقيق نجاحات كبيرة في استغلال الصحارى لتوليد الطاقة. في كاليفورنيا، قامت الحكومة الأمريكية بإنشاء محطات طاقة شمسية ضخمة في صحراء موهافي، توفر الكهرباء لملايين المنازل. في الصين، تم بناء واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم في منطقة تنغغر الصحراوية، حيث تغطي الألواح الشمسية مساحات هائلة من الأراضي القاحلة.

أما في أستراليا، فقد تم تطوير مشاريع لدمج الطاقة الشمسية مع بطاريات تخزين متطورة، مما يسمح بتوفير الكهرباء على مدار الساعة، حتى خلال الليل أو في الأيام الغائمة.

أحد الحلول التي يجري طرحها لتجاوز تحديات التخزين والنقل هو تصدير الطاقة الشمسية إلى أوروبا، حيث يمكن استخدام الكابلات الكهربائية البحرية لنقل الكهرباء من محطات الطاقة الشمسية في شمال إفريقيا إلى دول الاتحاد الأوروبي.

مشروع “ديزرتيك”، الذي تم طرحه قبل سنوات، كان يهدف إلى استغلال الصحراء الكبرى لإنتاج الكهرباء ونقلها إلى أوروبا، لكنه لم يتحقق بسبب مشكلات تمويلية وسياسية. ومع ذلك، فإن الفكرة لا تزال قيد الدراسة، حيث تعمل المغرب حالياً على تصدير جزء من كهربائها المتجددة إلى أوروبا عبر إسبانيا.

يقول الدكتور شريف النابلسي، أستاذ الهندسة الكهربائية بجامعة عمّان، إن “تصدير الطاقة الشمسية قد يكون الحل الأمثل لتوسيع استغلال الصحارى، لكنه يحتاج إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية، بالإضافة إلى اتفاقيات دولية لتنظيم سوق الطاقة بين الشرق الأوسط وأوروبا”.

الطاقة الشمسية مقابل الطاقة النووية: أيهما أكثر كفاءة؟

رغم أن الطاقة النووية لا تزال واحدة من أكثر مصادر الطاقة استقرارًا، فإنها تواجه تحديات بيئية تتعلق بالنفايات المشعة والمخاطر الأمنية. في المقابل، توفر الطاقة الشمسية حلًا أكثر أمانًا، لكنها تتطلب مساحات شاسعة من الأراضي وبنية تحتية متطورة.

في فرنسا وألمانيا، بدأ التحول تدريجياً من الطاقة النووية إلى الطاقة الشمسية والرياح، بينما لا تزال بعض الدول الأخرى تعتمد على الطاقة النووية كمصدر رئيسي للكهرباء. في العالم العربي، لا تزال بعض الدول تفكر في بناء مفاعلات نووية، مثل السعودية ومصر، لكن الطاقة الشمسية تبدو خيارًا أكثر استدامة على المدى الطويل.

مع استمرار انخفاض تكلفة تقنيات الطاقة الشمسية، يبدو أن العالم العربي أمام فرصة ذهبية لتحويل الصحارى إلى محطات طاقة عملاقة، توفر احتياجاته المحلية من الكهرباء، بل وتصدّر الفائض إلى الأسواق العالمية. لكن تحقيق هذا الحلم يتطلب إرادة سياسية قوية، واستثمارات ضخمة في البنية التحتية، وتعاونًا إقليميًا لتطوير شبكات نقل كهرباء ذكية وعابرة للحدود.

السؤال المطروح اليوم هو: هل يمكن أن تتحول الصحارى إلى كنز الطاقة الجديد، أم أن العوائق الاقتصادية والتقنية ستظل حجر عثرة أمام هذا الطموح؟ في ظل التغيرات المناخية المتسارعة، قد لا يكون أمام الدول العربية خيار سوى تبني هذا النموذج، إذا أرادت تأمين مستقبلها الطاقي والبقاء في صدارة التحول العالمي نحو الاقتصاد الأخضر.

error: Content is protected !!