لطالما اعتُبرت الديمقراطية النظام الأمثل للحكم، حيث يفترض أن يكون الشعب هو صاحب القرار، وأن السلطات تخضع لمساءلة الناخبين. لكن مع تزايد النفوذ الاقتصادي للنخب، وانتشار المعلومات المضللة عبر وسائل الإعلام، بدأ البعض يتساءل: هل الديمقراطية مجرد وهم تُسيطر عليه قوى غير مرئية؟ هل حقاً يقرر الناخبون مصير بلدانهم، أم أن هناك أيادٍ خفية تتحكم في اللعبة السياسية؟
بين تزايد المال السياسي، وسيطرة الشركات الكبرى على وسائل الإعلام، واستراتيجيات التأثير الخفي على الرأي العام، يبدو أن الديمقراطية لم تعد تعني حكم الشعب، بقدر ما أصبحت نظاماً مُصمماً لإقناع الجماهير بأنها تملك القرار، بينما الحقيقة قد تكون أبعد ما يكون عن ذلك.
عندما ظهرت الديمقراطية في أثينا القديمة، كان التصويت مقتصراً على الذكور الأحرار، ولم يكن يشمل النساء أو العبيد. ومع تطور المجتمعات، توسع المفهوم ليشمل قطاعات أوسع، لكن ظل السؤال قائماً: هل يعبر التصويت فعلاً عن إرادة الشعب؟
من الناحية النظرية، الديمقراطية تمنح الجميع فرصة متساوية للمشاركة في صنع القرار. لكن في الواقع، هناك تفاوت كبير في التأثير، حيث يمكن للنخب الاقتصادية والسياسية والإعلامية أن تتحكم في الرأي العام بطرق خفية، تجعل الديمقراطية أقرب إلى مسرحية يُملى فيها السيناريو مسبقاً.
يقول الدكتور سالم عز الدين، أستاذ العلوم السياسية، إن “الديمقراطية لم تكن يوماً نظاماً مثالياً كما يُروج لها، بل هي مجموعة من التوازنات التي تتيح للنخب الاحتفاظ بالسلطة تحت غطاء الشرعية الشعبية. إذا كانت الانتخابات تُحدد من يفوز، فإن المال والإعلام يحددان من يُمكنه أصلاً الترشح”.
المال والسياسة: من يحكم فعلاً؟
إحدى أكبر الإشكالات في الديمقراطيات الحديثة هي تأثير المال على السياسة. في الولايات المتحدة، تُنفق مليارات الدولارات في الحملات الانتخابية، حيث يسيطر المتبرعون الأثرياء والشركات الكبرى على تمويل الحملات، مما يمنحهم نفوذاً مباشراً على السياسات المستقبلية.
في كثير من الدول، أصبح الفوز في الانتخابات مرتبطاً بالقدرة على جمع الأموال أكثر من ارتباطه بالكفاءة السياسية. المرشحون الذين لا يحصلون على دعم مالي كافٍ من النخب الاقتصادية، غالباً ما يُستبعدون من المنافسة الفعلية، مما يجعل الديمقراطية خاضعة لقوانين السوق بدلاً من كونها تعبيراً حقيقياً عن إرادة الشعب.
يقول نادر كيوان، الباحث في الاقتصاد السياسي، إن “السياسة اليوم لا تُدار في مراكز الاقتراع، بل في اجتماعات مغلقة بين رجال الأعمال وكبار المسؤولين. الناخبون يختارون بين خيارات محددة مسبقاً، بينما تتخذ القرارات الحقيقية بعيداً عن أعين الجمهور”.
بينما لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل أصبح أداة قوية لصنع الواقع، حيث يتم التحكم في الخطاب العام من خلال انتقاء الأخبار، وصياغة الرسائل السياسية، واستخدام علم النفس الجماهيري للتأثير على آراء الناخبين.
في بعض الديمقراطيات، تمتلك حفنة قليلة من الشركات الكبرى معظم وسائل الإعلام، مما يعني أن الرأي العام يتم تشكيله وفق مصالح محددة. حتى وسائل التواصل الاجتماعي، التي يُفترض أنها تعطي صوتاً للجميع، تخضع لخوارزميات تروج لبعض الأفكار على حساب أخرى، مما يخلق بيئة إعلامية منحازة تحرف النقاشات العامة عن القضايا الحقيقية.
في الانتخابات الحديثة، لم يعد التأثير الإعلامي يقتصر على التلفزيون والصحف، بل دخل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات على الخط، حيث يتم استهداف الناخبين بحملات دعائية مخصصة، بناءً على بياناتهم الشخصية وسلوكهم على الإنترنت، مما يجعل قراراتهم الانتخابية أقل وعياً مما يعتقدون.
في بعض الأحيان، لا تكون الديمقراطية مجرد وسيلة للحكم الداخلي، بل يتم استخدامها كأداة للتأثير في الدول الأخرى. كثير من الدول الكبرى تتدخل في سياسات الدول النامية تحت شعار “نشر الديمقراطية”، بينما تكون المصالح الاقتصادية والجيوسياسية هي المحرك الأساسي لهذه التدخلات.
الديمقراطية، كما تُمارس اليوم في بعض الدول، أصبحت أشبه بغطاء شرعي يمكن استخدامه لتبرير التدخلات الخارجية، أو لفرض نموذج معين من الحكم يخدم مصالح القوى الكبرى، بدلاً من أن يكون أداة حقيقية لتحرير الشعوب.
تقول هيفاء ناصيف، أستاذة العلاقات الدولية، إن “الديمقراطية ليست دائماً الهدف، بل هي الوسيلة. الدول التي تُصدّر الديمقراطية ليست مهتمة فعلاً بتمكين الشعوب، بل بضمان أن الحكومات المنتخبة ستخدم مصالحها. لذلك، نرى كيف تُدعم أنظمة استبدادية عندما يكون ذلك مفيداً، وتُفرض العقوبات عندما تصبح الديمقراطية خطراً على المصالح الغربية”.
هل هناك بديل للديمقراطية؟
إذا كانت الديمقراطية خاضعة لهذا القدر من التلاعب، فهل يعني ذلك أنه يجب البحث عن نظام آخر؟ هناك من يقترح أن الحل ليس في التخلي عن الديمقراطية، بل في إعادة تصميمها بحيث تصبح أكثر شفافية وعدالة.
يطرح البعض نماذج مثل “الديمقراطية المباشرة”، حيث يصوت المواطنون على القوانين مباشرة بدلاً من اختيار ممثلين عنهم، أو “الديمقراطية التشاركية”، التي تمنح للمجتمع المدني دوراً أكبر في صناعة القرار.
لكن هذه النماذج تواجه تحديات عملية، حيث أن إشراك الجميع في اتخاذ القرارات قد يؤدي إلى بطء شديد في الحكم، وقد يُستغل أيضاً من قبل النخب نفسها لإعادة فرض سيطرتها بطرق جديدة.
قد لا تكون الديمقراطية وهماً كاملاً، لكنها بالتأكيد ليست بالصورة المثالية التي يُروَّج لها. ربما يكون السؤال الأكثر أهمية ليس ما إذا كانت الديمقراطية حقيقية أم لا، بل كيف يمكن جعلها أكثر شفافية، وأقل خضوعاً لسلطة المال والإعلام والنخب السياسية.
في النهاية، ربما تكون الديمقراطية كما نعرفها اليوم مجرد مرحلة في تطور أنظمة الحكم، وليست النموذج النهائي. وإذا كان هناك شيء مؤكد، فهو أن مستقبل الديمقراطية لن يتحدد فقط في صناديق الاقتراع، بل في وعي الشعوب وقدرتها على كشف من يتحكم حقاً في السلطة، ومن يدير اللعبة من وراء الستار.