تدخل أوروبا مرحلة غير مسبوقة من إعادة الهيكلة الأمنية في مواجهة ما تعتبره تهديداً روسياً متزايداً. إعلان ألمانيا وهولندا وبولندا عن إنشاء “شنغن عسكري” يمثل خطوة فارقة في هذا الاتجاه، إذ يهدف إلى تسهيل نقل القوات والمعدات العسكرية بسرعة عبر الحدود في حالات الطوارئ. لكن هذه المبادرة، التي تأتي بالتزامن مع أكبر مناورات للناتو منذ الحرب الباردة، تثير أسئلة جوهرية حول مستقبل الأمن الأوروبي: هل هي خطوة دفاعية بحتة، أم أنها تعكس استعداداً لحرب قد تكون وشيكة بين روسيا والغرب؟
لطالما اعتمد الناتو على سياسة الردع كركيزة لاستراتيجيته في مواجهة روسيا، لكن إنشاء “شنغن عسكري” يعكس تحولاً نحو نهج أكثر استباقية. فبدلاً من انتظار التهديدات، تعمل أوروبا الآن على إعداد مسرح العمليات العسكرية مسبقاً، بما يتضمن تسريع عمليات نشر القوات والعتاد العسكري.
حتى الآن، تواجه قوات الناتو صعوبات قانونية ولوجستية في التحرك داخل أوروبا بسبب القوانين الوطنية التي تفرض قيوداً على حركة المعدات الثقيلة والجيوش عبر الحدود. تهدف المبادرة الجديدة إلى تجاوز هذه العقبات، بحيث تصبح عملية نقل القوات من ألمانيا إلى بولندا أو دول البلطيق أسرع وأكثر سلاسة في حال اندلاع نزاع عسكري.
تعد بولندا اليوم الدولة الأكثر استعداداً لمواجهة مباشرة مع روسيا، حيث زادت من إنفاقها العسكري بشكل غير مسبوق، وتستضيف بالفعل قوات أمريكية وقواعد متقدمة للناتو. ووفقاً للمحللين العسكريين، فإن تمركز القوات الأوروبية هناك في إطار “شنغن العسكري” يعزز بشكل كبير القدرة الدفاعية للناتو على الجبهة الشرقية، لكنه في الوقت نفسه يزيد من حدة التوتر مع موسكو.
تعد مناورة “Steadfast Defender” أكبر استعراض للقوة العسكرية الغربية منذ عقود، بمشاركة 90 ألف جندي، إلى جانب مئات الطائرات الحربية وعشرات السفن القتالية. هذه التحركات العسكرية الضخمة ليست مجرد تدريب، بل هي رسالة واضحة لموسكو بأن الناتو مستعد لأي سيناريو عسكري محتمل.
وفقاً لتقرير مسرّب نشرته صحيفة “بيلد” الألمانية، فإن الحكومة الألمانية تضع بالفعل سيناريوهات لصراع مباشر مع روسيا قد يبدأ على الجبهة الشرقية بحلول عام 2025. هذا التسريب يوضح أن القلق الأوروبي ليس مجرد تكهنات، بل هو جزء من تخطيط عسكري جاد يضع أسوأ السيناريوهات في الحسبان.
بالإضافة إلى المبادرة الألمانية-الهولندية-البولندية، تقوم السويد وبولندا ودول البلطيق بتسريع برامج التسلح والتعاون العسكري مع الناتو. وتشير تحليلات إلى أن هذه الدول تتجه نحو بناء تحالف دفاعي متكامل يهدف إلى احتواء روسيا قبل أن تتمكن من توسيع نفوذها أكثر في شرق أوروبا.
روسيا، التي ترى في هذه الخطوات تهديداً مباشراً لأمنها، لم تتأخر في الرد. فقد حذر المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، من أن “شنغن العسكري” سيؤدي إلى “عواقب وخيمة على الاستقرار الأوروبي”. موسكو تعتبر أن تسهيل نقل القوات الغربية إلى الحدود الروسية يزيد من احتمالية وقوع مواجهة عسكرية مباشرة.
لم يكن رد الفعل الروسي مقتصراً على التصريحات السياسية، بل شمل أيضاً تحركات عسكرية فعلية. فقد بدأت موسكو في إعادة تمركز قواتها في المناطق الشرقية من البلاد، بما في ذلك نشر منصات صواريخ جديدة، في خطوة تُفهم على أنها استعداد لأي مواجهة محتملة مع الناتو.
أمام هذا التصعيد الغربي، تمتلك موسكو عدة خيارات: فإما قد تلجأ روسيا إلى تكثيف عملياتها العسكرية في أوكرانيا كوسيلة للضغط على الغرب. أو أن تقوم بتصعيد الهجمات السيبرانية حيث تمتلك موسكو قدرات هائلة في الحرب الإلكترونية، وقد تستخدمها لتعطيل البنية التحتية الحيوية للدول الأوروبية. أو قد تسعى روسيا إلى تعزيز تعاونها مع الصين وإيران وكوريا الشمالية لخلق توازن استراتيجي في مواجهة الناتو.
في هذا السيناريو، ستواصل أوروبا تعزيز دفاعاتها واستعداداتها العسكرية، بينما ترد روسيا بالمثل عبر تعزيز قواتها في الشرق. لن يحدث صدام مباشر، لكن التوتر سيظل مرتفعاً، مما يزيد من فرص حدوث مواجهة غير مقصودة بسبب خطأ عسكري أو سوء تقدير من أحد الطرفين.
إذا استمرت الأوضاع في التدهور، فقد نشهد مواجهة عسكرية محدودة، ربما تبدأ على شكل مناوشات في أوكرانيا أو دول البلطيق، لكنها قد تتطور بسرعة إلى صراع أوسع.
رغم التصعيد الحالي، لا تزال هناك فرصة لأن يسعى الطرفان إلى التهدئة عبر القنوات الدبلوماسية. قد تلعب دول مثل الصين أو تركيا دور الوسيط في محاولة لتجنب كارثة حرب شاملة في أوروبا.
مع إنشاء “شنغن عسكري”، يبدو أن أوروبا تتجه نحو أكبر إعادة ترتيب لنظامها الأمني منذ الحرب الباردة. وبينما تؤكد الدول الغربية أن هذه الإجراءات تهدف إلى الردع وليس الهجوم، ترى روسيا أنها مقدمة لحرب قادمة. وبين الحسابات السياسية والمخاوف الأمنية، يبقى السؤال الأهم: هل نحن أمام مجرد سباق تسلح جديد، أم أن أوروبا تستعد بالفعل لأسوأ سيناريو في تاريخها الحديث؟
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ