لطالما حاول الإنسان فهم العالم من حوله، وطرح أسئلة كبرى مثل: لماذا يوجد شيء بدلاً من لا شيء؟ هل هناك غاية للكون، أم أنه مجرد ظاهرة عشوائية؟ تقليديًا، اعتمدت الأديان والفلسفات الروحية على الميتافيزيقا لتقديم تفسيرات تتجاوز العالم المادي، مثل وجود إله، أو قوة كونية، أو قوانين غائية تحكم الكون.
لكن مع تطور العلم، بدأت هذه التفسيرات تواجه تحديات جديدة، حيث أصبحت الفيزياء قادرة على تفسير العديد من الظواهر التي كانت تُنسب سابقًا إلى قوى خارقة. فهل يمكن للعلم أن يفسر كل شيء دون الحاجة إلى أي عناصر ميتافيزيقية؟ أم أن هناك حدودًا للمعرفة العلمية تجعلنا مضطرين للاعتراف بوجود أبعاد تتجاوز المادة؟
العلم والميتافيزيقا: هل يمكن للفيزياء أن تفسر كل شيء؟
منذ الثورة العلمية في القرن السابع عشر، أصبح المنهج التجريبي هو الأداة الرئيسية لفهم الواقع. الفيزياء الحديثة، خصوصًا مع أينشتاين ونظرية الكم، قدمت رؤى جديدة حول طبيعة الوجود، لكنها لم تقدم إجابة نهائية لسؤال: لماذا يوجد الكون أصلًا؟
يقول هيثم العمري، عالم الفيزياء النظرية، إن “العلم قادر على وصف كيف يعمل الكون، لكنه لا يجيب بالضرورة على سؤال لماذا هو موجود. حتى النظريات الأكثر تقدمًا، مثل ميكانيكا الكم أو نظرية الأوتار، تفترض وجود قوانين أولية لم يفسرها أحد بعد”.
على سبيل المثال، يوضح نموذج الانفجار العظيم أن الكون نشأ من نقطة كثيفة وصغيرة، لكنه لا يفسر لماذا حدث ذلك. بعض العلماء يقترحون أن الكون قد يكون نتيجة “تذبذبات كمومية” في الفراغ، مما يعني أنه نشأ بشكل طبيعي دون الحاجة إلى أي قوة خارجية.
رغم تقدم العلم، لا تزال هناك أسئلة قد لا يكون بالإمكان الإجابة عليها من خلال المنهج العلمي وحده. الفيلسوف إيمانويل كانط رأى أن العقل البشري محدود بحدود الزمان والمكان، مما يعني أن هناك أشياء قد تكون موجودة، لكننا غير قادرين على إدراكها أو فهمها.
يقول نادر غانم، الباحث في الفلسفة المعرفية، إن “الاعتماد الكلي على العلم قد يكون خطأ، لأن هناك مفاهيم مثل الأخلاق، الجمال، والوعي لا يمكن قياسها أو اختبارها تجريبيًا. ربما نحتاج إلى مزيج من العلم والفلسفة لفهم أعمق للواقع”.
إحدى المشكلات الكبرى التي تواجه محاولة تفسير الوجود بدون ميتافيزيقا هي طبيعة الوعي. العلم لم يتمكن حتى الآن من تفسير كيفية نشوء الوعي من المادة. هل العقل مجرد نتاج العمليات الدماغية، أم أنه يشير إلى وجود بعد آخر للواقع؟
يقول رغيد المصري، الباحث في علم الأعصاب، إن “رغم التقدم الهائل في علم الدماغ، لا تزال مشكلة الوعي لغزًا. بعض الفلاسفة، مثل ديفيد تشالمرز، يقترحون أن الوعي قد يكون عنصرًا أساسيًا في الكون، تمامًا مثل المادة والطاقة”.
إذا كان الوعي لا يمكن تفسيره بالكامل عبر الفيزياء، فهل هذا يعني أننا بحاجة إلى مفهوم يتجاوز العلم لفهمه؟ أم أن هذا مجرد فجوة مؤقتة في معرفتنا العلمية؟
هل يمكن تفسير الكون بدون غاية؟
إحدى أقوى الحجج ضد الحاجة إلى ميتافيزيقا هي أن الكون لا يحتاج إلى غاية، بل هو ببساطة موجود. هذا ما يقترحه الفيلسوف برتراند راسل، الذي رأى أن السؤال عن سبب وجود الكون قد لا يكون له معنى أصلاً، تمامًا كما أن السؤال عن سبب وجود الرقم 2 لا معنى له.
لكن البعض يرى أن هذه الإجابة غير مرضية، لأن الغريزة البشرية تدفعنا للبحث عن سبب لكل شيء. نحن لا نقبل عادة أن الأشياء تحدث دون سبب، فكيف يمكننا قبول أن الكون نفسه لا يحتاج إلى تفسير؟
رغم التقدم العلمي، لا يزال هناك الكثير من الأسئلة التي لم تُحل. العلم قادر على تفسير العديد من الظواهر، لكنه لم يصل إلى تفسير نهائي لكل شيء. قد يكون من الممكن، في المستقبل، أن نجد إجابات أكثر وضوحًا، أو قد نكتشف أن هناك حدودًا لا يمكن تجاوزها.
في النهاية، السؤال الحقيقي ليس فقط ما إذا كان يمكن تفسير الوجود دون ميتافيزيقا، بل ما إذا كان الإنسان قادرًا على العيش دون الحاجة إلى مفهوم يتجاوز الطبيعة المادية. ربما يكون البحث عن معنى أعمق جزءًا لا يتجزأ من التجربة البشرية، بغض النظر عما إذا كان هذا المعنى موجودًا أم لا.