لطالما اعتُبر العلم قوة تقدمية، وسيلة لفهم العالم، ومحركًا للحداثة والتحرر من الخرافات. لكن مع توسع نفوذ العلم في جميع مجالات الحياة، بدأ يظهر تساؤل خطير: هل يمكن أن يتحول العلم إلى أيديولوجيا قمعية تُستخدم للسيطرة على البشر بدلًا من تحريرهم؟
إذا كان العلم قادرًا على تفسير كل شيء، فهل يمكن أن يتم استغلاله لتبرير القمع؟ وهل يمكن أن يصبح العلم نفسه أداة لإعادة تشكيل الوعي البشري بطريقة لا تترك مجالًا للنقد أو التفكير المستقل؟
العلم كأداة للتحرر: كيف بدأ كل شيء؟
منذ عصر التنوير، كان يُنظر إلى العلم على أنه البديل العقلاني للخرافات والسلطة الدينية، حيث ساهم في:
تفسير الظواهر الطبيعية دون الحاجة إلى معتقدات ميتافيزيقية.
تحسين حياة البشر من خلال التكنولوجيا والطب.
تحرير الفكر من القيود التي فرضتها المؤسسات التقليدية.
لكن مع تعاظم تأثيره، بدأ البعض يتساءل: هل يمكن للعلم، رغم كل إنجازاته، أن يصبح قوة سلطوية جديدة تحل محل الأنظمة القديمة، لكن بأساليب أكثر تطورًا؟
يقول إياد الدباغ، الباحث في فلسفة العلوم، إن “العلم بحد ذاته ليس أيديولوجيا، لكنه يمكن أن يُستخدم كأداة للسلطة إذا تم التلاعب بنتائجه لخدمة مصالح معينة”.
العلموية: عندما يتحول العلم إلى عقيدة صارمة
في الفلسفة، هناك مفهوم يُعرف بـ”العلموية” (Scientism)، وهو الاعتقاد بأن العلم وحده هو المصدر الوحيد للمعرفة، وأن أي طريقة أخرى لفهم العالم غير صالحة.
يتم رفض أي معرفة دينية أو فلسفية باعتبارها “غير علمية”.
يتم تصوير القيم والأخلاق على أنها مجرد “حقائق بيولوجية”، مما قد يؤدي إلى تبرير أفعال غير أخلاقية باسم العلم.
يصبح العلماء وحدهم “السلطة الشرعية” لفهم الواقع، مما قد يُقصي النقاشات المجتمعية حول القضايا المهمة.
يقول حسام المنصوري، الباحث في علم الاجتماع، إن “العلموية ليست مجرد ثقة في العلم، بل هي محاولة لاحتكار الحقيقة وتقديم العلم كأنه دين جديد لا يجوز التشكيك فيه”.
العلم كأداة للسيطرة السياسية والاجتماعية
لم يعد العلم مجرد وسيلة لفهم العالم، بل أصبح أيضًا أداة للسيطرة الاجتماعية، حيث يتم استخدامه لتبرير السياسات العامة والتحكم في السلوك البشري.
التحكم في السلوك من خلال البيانات: الحكومات والشركات تجمع كميات هائلة من البيانات حول الأفراد، مما يسمح لها بالتأثير على قراراتهم بطرق غير مرئية.
التلاعب بالمعرفة العلمية لخدمة أجندات معينة: في بعض الأحيان، يتم تمويل الأبحاث العلمية من قبل جهات ذات مصالح خاصة، مما يؤدي إلى تحريف النتائج لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية.
استخدام العلم في التلاعب الإعلامي: يتم تقديم بعض الدراسات العلمية في الإعلام بطرق منحازة، بحيث يتم تضخيم نتائج معينة وتجاهل نتائج أخرى.
يقول أمجد الصايغ، الخبير في تحليل البيانات، إن “العلم ليس محايدًا كما نعتقد. من يسيطر على العلم، يسيطر على طريقة فهمنا للعالم”.
الذكاء الاصطناعي والعلم القمعي: هل يمكن أن يُستخدم العلم ضد الإنسان؟
مع تطور الذكاء الاصطناعي، بدأت تظهر تطبيقات علمية قد تؤدي إلى تضييق الحريات بدلًا من توسيعها.
المراقبة الجماعية: أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على تحليل بيانات الملايين من الأشخاص في لحظات، مما يسمح للحكومات بفرض رقابة غير مسبوقة.
الخوارزميات المنحازة: رغم أن الذكاء الاصطناعي يُفترض أن يكون محايدًا، إلا أنه يمكن أن يحمل تحيزات المبرمجين الذين أنشأوه، مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير عادلة.
إمكانية خلق “مجتمعات خاضعة”: إذا تم استخدام العلم لبرمجة العقول عبر الإعلام، التعليم، والتكنولوجيا، فقد يؤدي ذلك إلى تقييد قدرة الناس على التفكير النقدي.
تقول رُبى العساف، الباحثة في التكنولوجيا والأخلاق، إن “الذكاء الاصطناعي قد يصبح أداة لتعزيز العدالة، لكنه قد يتحول أيضًا إلى نظام قمعي إذا تم استخدامه بطريقة غير أخلاقية”.
هل يمكن إنقاذ العلم من التوظيف الأيديولوجي؟
رغم المخاطر المحتملة، لا يزال العلم واحدًا من أعظم إنجازات البشرية، والسؤال الحقيقي هو: كيف يمكننا ضمان بقائه أداة للتحرر، وليس وسيلة للسيطرة؟
تعزيز الشفافية العلمية: يجب أن تكون الأبحاث العلمية مفتوحة ومتاحة للجميع، حتى لا يتم استغلالها لخدمة أجندات معينة.
إدراك أن العلم ليس معصومًا: يجب أن نكون قادرين على نقد العلم بطريقة بناءة، بدلاً من التعامل معه كحقيقة مطلقة.
التوازن بين العلم والإنسانية: لا يجب أن يُنظر إلى العلم على أنه بديل للأخلاق والفلسفة، بل يجب أن يعمل إلى جانبهما لضمان تحقيق التقدم دون التضحية بالقيم الإنسانية.
قد يكون العلم أداة قوية لفهم العالم، لكنه ليس محايدًا كما نتصور. إذا لم نكن حذرين، فقد يتحول إلى أيديولوجيا جديدة تُستخدم للتحكم في المجتمعات، بدلاً من أن تكون وسيلة لتحريرها.
يبقى السؤال الأهم: كيف نضمن أن العلم سيظل أداة للمعرفة، وليس أداة للسلطة؟ وهل يمكن للبشرية أن توازن بين التقدم العلمي والحرية الفردية، أم أننا في طريقنا إلى مستقبل يتحكم فيه العلم بطرق لا يمكننا مقاومتها؟