تعد الشعاب المرجانية أحد أهم النظم البيئية في المحيطات، حيث تلعب دورًا محوريًا في دعم التنوع البيولوجي البحري، وحماية السواحل من التآكل، وتأمين سبل العيش لملايين البشر حول العالم. لكن على مدار العقود الماضية، تعرضت هذه النظم البيئية الحيوية للتدمير بوتيرة متسارعة بسبب تغير المناخ، والتلوث، والصيد الجائر، مما أدى إلى فقدان أكثر من 50% من الشعاب المرجانية في بعض المناطق. اليوم، يسابق العلماء الزمن لإيجاد طرق لاستعادة الشعاب المرجانية وإنقاذها من الانقراض، لكن هل يمكن حقًا إعادة هذه النظم البيئية إلى سابق عهدها، أم أن الأضرار التي لحقت بها لا يمكن إصلاحها؟
تغطي الشعاب المرجانية أقل من 1% من قاع المحيط، لكنها تؤوي أكثر من 25% من الأنواع البحرية، مما يجعلها من أكثر النظم البيئية تنوعًا وحساسية. توفر هذه الشعاب الغذاء والمأوى لآلاف الأنواع من الأسماك والكائنات البحرية، كما تلعب دورًا مهمًا في الاقتصاد العالمي، حيث تدر صناعات الصيد والسياحة المرتبطة بها مليارات الدولارات سنويًا.
لكن وفقًا لتقرير “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ”، فإن الشعاب المرجانية تواجه تهديدات غير مسبوقة بسبب ارتفاع درجات حرارة المحيطات، مما يؤدي إلى ظاهرة “ابيضاض المرجان”، حيث تفقد الشعاب ألوانها وتموت بسبب فقدان الطحالب التكافلية التي تعيش داخلها. كما أن التلوث الناجم عن النشاط البشري، مثل النفايات البلاستيكية والجريان السطحي للمبيدات الزراعية، يزيد من تفاقم الأزمة.
يقول الدكتور أنور الزعابي، الباحث في علوم البحار بجامعة مسقط، إن “الشعاب المرجانية حساسة جدًا للتغيرات البيئية، وارتفاع درجة حرارة المياه بمقدار درجة أو درجتين فقط يمكن أن يكون كافيًا لقتل مساحات واسعة منها. إذا استمر الاحترار العالمي بالمعدل الحالي، فقد نفقد أكثر من 90% من الشعاب المرجانية بحلول عام 2050”.
تغير المناخ وتأثيره المدمر على الشعاب المرجانية
يعد تغير المناخ أحد أكبر التهديدات التي تواجه الشعاب المرجانية، حيث يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة معدلات ابيضاض المرجان. خلال العقود الأخيرة، شهد العالم العديد من موجات الابيضاض الجماعي، كان آخرها في عام 2016، حيث تعرض أكثر من 70% من الشعاب المرجانية في الحاجز المرجاني العظيم بأستراليا للتلف بسبب درجات الحرارة المرتفعة.
في البحر الأحمر، الذي يضم بعضًا من أكثر الشعاب المرجانية مقاومة للحرارة في العالم، بدأت التغيرات المناخية تؤثر على البيئات البحرية، حيث تشير الدراسات إلى أن بعض المناطق تشهد تراجعًا في معدلات نمو المرجان بسبب ارتفاع درجات حرارة المياه.
يؤكد الدكتور سفيان البدوي، أستاذ البيئة البحرية بجامعة تونس، أن “الشعاب المرجانية في البحر الأحمر والخليج العربي لديها مقاومة أكبر لارتفاع درجات الحرارة مقارنة بمثيلاتها في المحيطين الهندي والهادئ، لكن ذلك لا يعني أنها محصنة ضد التغير المناخي. بدون تدخل سريع للحد من الانبعاثات الكربونية، فإن حتى هذه الشعاب قد تصبح مهددة خلال العقود القادمة”.
رغم حجم التدمير الذي لحق بالشعاب المرجانية، فإن الأبحاث الحديثة تقدم بارقة أمل لاستعادتها. خلال السنوات الماضية، طور العلماء تقنيات جديدة لزراعة المرجان في المختبرات ثم نقلها إلى المحيطات، حيث يمكنها أن تنمو وتعيد إحياء المناطق المتضررة. في بعض المناطق، يتم استخدام تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد لإنشاء هياكل تشبه الشعاب المرجانية الطبيعية، مما يساعد على إعادة توطين الكائنات البحرية فيها.
في جزر المالديف، تم إطلاق مشروع رائد لزراعة المرجان باستخدام “أشجار المرجان”، وهي هياكل تحت الماء تُستخدم لتنمية الشعاب المرجانية قبل زراعتها في المحيط. كما أطلقت منظمات بيئية برامج لإعادة تأهيل الشعاب المرجانية في البحر الكاريبي، حيث يتم زرع أنواع أكثر مقاومة للحرارة لمساعدتها على البقاء في بيئات أكثر دفئًا.
دور الدول العربية في حماية الشعاب المرجانية
تعد الشعاب المرجانية في الخليج العربي والبحر الأحمر من بين الأهم في العالم، لكنها تواجه تهديدات متزايدة بسبب التطور العمراني والصيد الجائر والتلوث النفطي. في السعودية، بدأت مبادرات لحماية الشعاب المرجانية ضمن “مشروع البحر الأحمر”، الذي يهدف إلى تعزيز الاستدامة البيئية في المنطقة. كما أطلقت الإمارات برامج لإعادة تأهيل الشعاب المرجانية في سواحلها، حيث يتم زراعة آلاف القطع المرجانية سنويًا للحفاظ على التنوع البحري.
لكن رغم هذه الجهود، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه حماية الشعاب المرجانية في العالم العربي، حيث أن العديد من المشاريع الساحلية لا تأخذ في الاعتبار التأثيرات البيئية، مما يؤدي إلى تدمير الشعاب بفعل الردم والتلوث.
يقول الدكتور حسان بن عيسى، الباحث في الاستدامة البحرية بجامعة الدوحة، إن “الدول العربية بحاجة إلى تعزيز التشريعات البيئية لحماية الشعاب المرجانية، وفرض قيود أكثر صرامة على الأنشطة الصناعية والسياحية التي تضر بها. لا يمكن إنقاذ هذه النظم البيئية بدون سياسات واضحة والتزام طويل الأمد”.
مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة وتزايد التهديدات البشرية، يواجه العالم سباقًا مع الزمن لإنقاذ الشعاب المرجانية قبل أن تختفي تمامًا. ورغم أن تقنيات الاستعادة قد تساعد في إعادة بناء بعض المناطق المتضررة، إلا أن الحل الحقيقي يكمن في معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة، مثل تقليل الانبعاثات الكربونية، ووضع سياسات أكثر صرامة لحماية البيئات البحرية.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل ستتحرك الحكومات والشركات والمؤسسات البيئية بسرعة كافية لإنقاذ الشعاب المرجانية، أم أننا سنشهد خلال العقود القادمة انقراضًا تدريجيًا لأحد أهم النظم البيئية على كوكب الأرض؟ في الوقت الحالي، لا تزال الإجابة غير واضحة، لكن المؤكد أن التحدي الذي نواجهه هائل، وأن المستقبل يتوقف على القرارات التي نتخذها اليوم.