Spread the love

مع تفاقم الأزمات البيئية وارتفاع معدلات التلوث والتغير المناخي، بات البحث عن حلول مبتكرة أمراً ملحّاً أكثر من أي وقت مضى. في ظل هذه التحديات، ظهر الذكاء الاصطناعي بوصفه واحداً من أكثر الأدوات الواعدة في محاولات إنقاذ الكوكب. من تحليل البيانات الضخمة لرصد التغيرات المناخية إلى تحسين كفاءة الطاقة وتقليل الهدر الصناعي، يبدو أن هذه التقنية الحديثة تحمل مفاتيح ثورة بيئية قد تغير شكل العالم كما نعرفه. لكن، إلى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون حلاً حقيقياً، وما هي العقبات التي قد تعيق دوره في مواجهة التحديات البيئية؟

الذكاء الاصطناعي ورصد التغيرات المناخية: ثورة في التنبؤ بالكوارث

إحدى أبرز المزايا التي يوفرها الذكاء الاصطناعي في المجال البيئي تكمن في قدرته على تحليل كميات هائلة من البيانات، ما يساعد العلماء على فهم التغيرات المناخية والتنبؤ بالكوارث الطبيعية بدقة غير مسبوقة. وفقاً لتقرير صادر عن “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ” عام 2023، فإن الذكاء الاصطناعي أصبح أداة رئيسية في مراقبة تحولات الغلاف الجوي، حيث يتم استخدامه لتحليل بيانات الأقمار الصناعية والتقاط التغيرات الطفيفة في درجات الحرارة ومستويات البحار.

في هذا السياق، يشير الدكتور نضال الكيلاني، أستاذ علوم البيانات البيئية في جامعة بيروت، إلى أن “الذكاء الاصطناعي أحدث نقلة نوعية في التنبؤ بالكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والعواصف والجفاف. الأنظمة الذكية قادرة على تحليل أنماط الطقس بدقة متناهية، ما يمنح الحكومات وقتاً كافياً لاتخاذ التدابير الوقائية اللازمة”. ويوضح أن العديد من الدول بدأت بالفعل في تبني هذه التقنية، حيث أطلقت الولايات المتحدة مشروع “كلايمت تراك” الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد التقلبات المناخية، بينما تعمل أوروبا على تطوير نماذج حسابية متقدمة لمراقبة مستويات انبعاثات الكربون في المدن الكبرى.

إلى جانب دوره في التنبؤ بالكوارث، يساعد الذكاء الاصطناعي أيضاً في تحسين كفاءة استخدام الموارد وتقليل الهدر الصناعي، وهو ما يمكن أن يحدث تحولاً جذرياً في أنظمة الطاقة العالمية. وفقاً لدراسة نشرتها “وكالة الطاقة الدولية” عام 2023، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أنظمة الشبكات الكهربائية الذكية ساهمت في تقليل استهلاك الطاقة بنسبة تصل إلى 15% في بعض الدول المتقدمة.

في ألمانيا، التي تعد من رواد التحول نحو الاقتصاد الأخضر، يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين إدارة استهلاك الطاقة، حيث تقوم أنظمة تحليل البيانات بتوجيه الكهرباء إلى المناطق التي تحتاجها في الوقت الفعلي، ما يقلل من الفاقد الطاقي. كما تعمل شركات مثل “تيسلا” و”جنرال إلكتريك” على تطوير تقنيات ذكاء اصطناعي تُستخدم في أنظمة تخزين الطاقة المتجددة، مما يساعد في التغلب على مشكلة عدم استقرار مصادر الطاقة مثل الشمس والرياح.

أما في العالم العربي، فلا تزال هذه التطبيقات في مراحلها الأولى، رغم أن بعض الدول بدأت في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في قطاعات الطاقة والصناعة. في الإمارات، تم إطلاق مشروع “المدينة المستدامة” الذي يعتمد بشكل رئيسي على الذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد وتقليل استهلاك الطاقة، في حين تعمل السعودية على تطوير مشروعات للطاقة الذكية ضمن رؤيتها 2030.

الدكتور ياسر عبد الحميد، الباحث في تقنيات الاستدامة بجامعة القاهرة، يرى أن “العالم العربي يحتاج إلى تسريع تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة الطاقة والصناعة، لأن ذلك لا يساعد فقط في تقليل التلوث، بل يساهم أيضاً في تخفيض تكاليف الإنتاج، ما يجعل الاقتصاد أكثر تنافسية واستدامة”. لكنه يشير إلى أن التحدي الأكبر يكمن في نقص الكوادر المؤهلة وضعف الاستثمارات في مجال البحث والتطوير، وهو ما يتطلب سياسات حكومية أكثر دعماً لهذا التوجه.

التقنيات الذكية وإعادة تدوير النفايات: حل لمشكلة عالمية؟

النفايات البلاستيكية والتلوث الصناعي من أكبر المشكلات البيئية التي تواجه العالم اليوم، لكن الذكاء الاصطناعي بدأ يلعب دوراً متزايداً في إدارة هذه المشكلة بطرق أكثر كفاءة. في اليابان، تم تطوير روبوتات ذكية تستخدم تقنيات التعلم العميق للتعرف على أنواع النفايات وفرزها تلقائياً، مما يسهل عملية إعادة التدوير ويقلل من كمية المخلفات التي يتم دفنها في المكبات أو إلقاؤها في المحيطات.

في السويد، تم إنشاء مصانع ذكية تستخدم الذكاء الاصطناعي في تحويل النفايات العضوية إلى وقود حيوي، ما ساهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وخفض الانبعاثات الضارة. كما بدأت شركات في الولايات المتحدة في استخدام أنظمة ذكاء اصطناعي لتقليل الهدر الغذائي في سلاسل التوريد، حيث تساعد هذه الأنظمة في التنبؤ بمستويات الطلب وتوجيه المنتجات إلى الأسواق التي تحتاجها، مما يقلل من كميات الطعام التي يتم التخلص منها.

لكن رغم النجاحات التي تحققها هذه التقنيات، لا تزال هناك فجوة كبيرة في تطبيقها في الدول النامية، حيث تفتقر العديد من الدول العربية إلى البنية التحتية اللازمة للاستفادة من هذه الحلول الذكية. الدكتور جمال نصار، الخبير في الإدارة البيئية بجامعة تونس، يؤكد أن “الدول العربية بحاجة إلى استثمارات جادة في الذكاء الاصطناعي البيئي، لأن التقنيات الحالية قد تساعد في حل مشكلات مستعصية مثل إدارة النفايات وترشيد استهلاك المياه، لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية واستثمارات طويلة الأجل”.

هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون بديلاً عن السياسات البيئية التقليدية؟

رغم التفاؤل الكبير بشأن قدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث ثورة في مجال حماية البيئة، إلا أن العديد من الخبراء يحذرون من أن هذه التقنيات لا يمكن أن تكون بديلاً عن السياسات البيئية التقليدية، بل يجب أن تكون أداة مكملة لها. إذ أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي قد يعطي الحكومات والشركات ذريعة لتأخير اتخاذ إجراءات أكثر صرامة في تقليل انبعاثات الكربون أو فرض قوانين بيئية أكثر صرامة.

يشير تقرير صادر عن “المنتدى الاقتصادي العالمي” عام 2023 إلى أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعب دوراً مهماً في تسريع التحول نحو اقتصاد أخضر، لكنه لا يمكن أن يحل محل الإرادة السياسية والالتزام الحكومي. الدكتور أكرم زيدان، الباحث في الاقتصاد البيئي بجامعة بيروت، يرى أن “التكنولوجيا وحدها لا تكفي، ما لم تكن هناك سياسات واضحة تفرض على الشركات والدول تقليل الانبعاثات وإعادة هيكلة اقتصاداتها لتكون أكثر استدامة”.

رغم أن الذكاء الاصطناعي يقدم حلولاً مبتكرة وفعالة لمواجهة التحديات البيئية، إلا أن نجاحه في إحداث تغيير حقيقي يعتمد على مدى استعداد الدول للاستثمار في هذه التقنيات وتوفير بيئة تشريعية داعمة لها. في ظل التقدم السريع الذي يشهده هذا المجال، قد يصبح الذكاء الاصطناعي أحد أهم أدوات مكافحة التغير المناخي وإدارة الموارد بشكل أكثر كفاءة، لكن يبقى السؤال الأهم: هل ستكون الدول العربية جزءاً من هذه الثورة البيئية، أم أنها ستظل متأخرة في سباق التقدم التكنولوجي المستدام؟

error: Content is protected !!