منذ أن بدأ الإنسان يتأمل في الوجود، طرح السؤال الجوهري: هل يحتاج الكون إلى خالق؟ هل يمكن أن يكون للكون بداية من العدم، أم أن هناك قوة عُليا أوجدته؟ بين التفسيرات الدينية، والنظريات الفيزيائية، والفلسفات التي تحاول تفسير الوجود بعيداً عن أي ميتافيزيقا، لا يزال هذا السؤال مطروحاً، وربما أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، مع التقدم العلمي الذي يسعى إلى سبر أغوار البدايات المطلقة للوجود.
بعض الفلاسفة والعلماء يرون أن الكون لا يحتاج إلى سبب خارجي، وأن وجوده يمكن أن يكون نتيجة لقوانين طبيعية بحتة. بينما يرى آخرون أن فكرة وجود نظام متناسق ومعقد، مثل الكون، لا يمكن تفسيرها إلا بوجود عقل خارجي أوجده. أين تقف هذه الجدلية؟ وما الذي يمكن للعلم والفلسفة أن يقدماه من إجابات؟
الانفجار العظيم: هل هو دليل على الخلق؟
يُعد نموذج الانفجار العظيم هو التفسير الأكثر قبولاً لنشأة الكون، حيث يُشير إلى أن الكون بدأ من نقطة متناهية الصغر والكثافة قبل حوالي 13.8 مليار سنة. لكن إذا كان للكون بداية، فهل يعني ذلك بالضرورة أنه احتاج إلى قوة خارجية لإيجاده؟
يقول الدكتور إياد الصفدي، أستاذ الفيزياء النظرية، إن “الكثيرون يعتقدون أن الانفجار العظيم هو لحظة الخلق، لكن في الحقيقة، ما نعرفه هو أن قوانين الفيزياء الحالية تعمل فقط بعد الانفجار العظيم، أما ما قبله، فلا يزال مجهولاً. هناك نظريات تحاول تفسير ذلك، مثل الأكوان المتعددة، أو أن الكون قد يكون نتيجة تذبذبات كمومية داخل الفراغ”.
من هذا المنطلق، فإن بعض العلماء يرون أن الكون يمكن أن يكون قد نشأ ذاتياً، دون الحاجة إلى سبب خارجي، تماماً كما تظهر الجسيمات دون الذرية وتختفي داخل الفراغ الكمومي في تجارب فيزياء الجسيمات. لكن هذا التفسير لا يحل السؤال الجوهري: لماذا توجد هذه القوانين الفيزيائية أصلاً؟ ولماذا يعمل الكون بهذه الطريقة بدلاً من أي شكل آخر؟
الفلسفة والسبب الأول: هل يمكن أن يكون هناك وجود بلا سبب؟
منذ العصور القديمة، طُرحت فكرة “السبب الأول” كمحاولة لتفسير ضرورة وجود خالق. الفيلسوف أرسطو رأى أن كل شيء يحتاج إلى سبب، لكن لا يمكن أن يكون هناك سلسلة لا نهائية من الأسباب، مما يستدعي وجود “محرك أول” لا يحتاج إلى سبب لوجوده. هذه الفكرة استمرت لاحقاً في الفكر الفلسفي والديني، حيث تبناها مفكرون مثل ابن سينا وابن رشد، وأصبحت من أسس الفلسفة الكلاسيكية.
لكن في العصر الحديث، بدأ الفلاسفة يشككون في مبدأ السببية ذاته، خاصة بعد التطورات في فيزياء الكم، حيث تُظهر التجارب أن بعض الظواهر تحدث دون سبب واضح.
تقول الدكتورة نادية عزام، الباحثة في فلسفة العلم، إن “المشكلة الأساسية في هذا الجدل هي أن العقل البشري مبرمج على البحث عن أسباب لكل شيء، لكن في المستوى الكوني، قد لا يكون لهذه القاعدة أي معنى. قد يكون الكون ببساطة حقيقة قائمة بذاتها، لا تحتاج إلى تفسير خارج نطاقها”.
إحدى الطرق للالتفاف على سؤال الحاجة إلى خالق هي افتراض أن الكون لم يكن له بداية، بل هو أزلي بطبيعته. هذه الفكرة كانت شائعة في الفلسفات القديمة، واستمرت حتى القرن العشرين، حيث كان هناك جدل بين مؤيدي نظرية الكون الثابت، التي ترى أن الكون لا بداية له، ومؤيدي نموذج الانفجار العظيم.
لكن حتى مع إثبات أن للكون بداية زمنية، فإن بعض العلماء يقترحون أن هناك دورات متكررة للكون، حيث ينهار ثم ينفجر مجدداً، مما يعني أنه لا يحتاج إلى بداية مطلقة.
ما وراء العلم: هل يمكن للفيزياء أن تجيب على كل شيء؟
رغم التقدم العلمي الهائل، لا تزال هناك أسئلة لا تستطيع الفيزياء الإجابة عنها، مثل: لماذا توجد القوانين الفيزيائية كما هي؟ ولماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟
يرى بعض العلماء أن هذه الأسئلة قد لا تكون ذات معنى، لأنها تفترض أن الوجود يحتاج إلى تفسير، بينما قد يكون مجرد حقيقة لا تحتاج إلى سبب. لكن بالنسبة لكثيرين، فإن هذه الأسئلة تشير إلى وجود “ما وراء” العلم، مما يجعل البحث عن إجابة خارج نطاق الفيزياء أمراً ضرورياً.
يبين هنا الدكتور الصفدي، بأن “العلم قادر على تفسير كيفية عمل الكون، لكنه لا يجيب عن سبب وجوده أصلاً. هذه الأسئلة تبقى ضمن نطاق الفلسفة، وربما الدين، لأنها تتجاوز حدود المنهج العلمي”.
في نهاية المطاف، السؤال عن الحاجة إلى خالق ليس مجرد سؤال علمي، بل هو مرتبط بتصوراتنا عن الوجود والمعنى. البعض يرى أن فكرة الخالق ضرورية لمنح الكون تفسيراً منطقياً، بينما يرى آخرون أن الكون لا يحتاج إلى سبب خارجي، بل هو مجرد حقيقة قائمة بذاتها.
ربما تكون المشكلة الأساسية هي أن عقولنا البشرية غير مهيأة لفهم طبيعة الوجود خارج حدود الزمن والمكان. لكن ما هو مؤكد، أن هذا السؤال سيظل مطروحاً، سواء من منظور الفيزياء، الفلسفة، أو حتى الإيمان الشخصي، لأن البحث عن الأصل والغاية جزء من طبيعة الإنسان.