الخميس. أكتوبر 17th, 2024

تفكيك العنف الأسري.. الدين مبرر للسيطرة الذكورية؟

الدين والعنف الأسري: التفسيرات المتباينة

عند التعمق في علاقة الدين بالعنف الأسري، نجد أن الأمر أكثر تعقيدًا من مجرد اتهام الدين بتبرير العنف. الدين، بحد ذاته، يمكن أن يكون قوة للسلام والعدالة، ولكن المشكلة تكمن في كيفية تفسير النصوص الدينية واستخدامها في السياقات الاجتماعية المختلفة. في المجتمعات التي تُهيمن فيها التقاليد الأبوية، قد يتم انتقاء النصوص الدينية أو تحريفها لتبرير الهيمنة الذكورية وإسكات أصوات النساء والأطفال.

في الإسلام، على سبيل المثال، تثير آية القوامة (الرجال قوامون على النساء) نقاشًا مستمرًا حول ما إذا كانت تدعم العنف أو تفرض مسؤولية الرعاية والحماية على الرجل. بعض الفقهاء يفسرونها كدليل على أن الرجل يجب أن يكون الراعي والحامي للأسرة، وهو تفسير يتماشى مع المبادئ الإنسانية التي تدعو إلى الرحمة والعدل. ومع ذلك، فإن بعض التفسيرات المتشددة لهذه الآية تُستخدم لتبرير العنف والإكراه، متجاهلة السياقات الأوسع التي تدعو إلى حسن المعاشرة والاحترام المتبادل.

أما في المسيحية، فإن بعض التفسيرات التوراتية تُستخدم لتبرير خضوع المرأة للرجل تحت مسمى “الرجل رأس المرأة”. لكن هذه التفسيرات غالبًا ما تتجاهل الدعوات الإنجيلية للحب والاحترام المتبادل بين الزوجين. تاريخيًا، استُخدمت هذه النصوص لتبرير النظام الأبوي في المجتمعات المسيحية، مما عزز من الهيمنة الذكورية وجعل النساء أكثر عرضة للعنف والإيذاء.

السيطرة الذكورية.. الأسباب الثقافية والاجتماعية

السيطرة الذكورية داخل الأسرة ليست مجرد نتاج لتفسيرات دينية، بل هي جزء من بنية ثقافية واجتماعية أعمق تعود جذورها إلى آلاف السنين. في المجتمعات الأبوية، تُمنح السلطة للرجال بفضل الموروثات الثقافية التي تعزز من تفوق الذكور وتحط من قيمة النساء. هذه السيطرة تُعزز من خلال المؤسسات الاجتماعية مثل الأسرة، التعليم، والإعلام، التي تكرس الأدوار التقليدية للجنسين.

في هذه السياقات، يُعتبر العنف الأسري وسيلة للحفاظ على النظام الاجتماعي التقليدي، حيث يُنظر إلى المرأة والأطفال على أنهم تحت سلطة الرجل. هذا المفهوم يعزز من السلطة المطلقة للرجل داخل الأسرة، ويضع النساء في موقف ضعف حيث يصبحن أكثر عرضة للعنف والإساءة. العنف في هذه المجتمعات ليس مجرد فعل فردي، بل هو جزء من هيكل اجتماعي أوسع يدعم السلطة الذكورية.

الأسباب الثقافية والاجتماعية للسيطرة الذكورية تشمل أيضًا عوامل مثل الفقر، نقص التعليم، والضغوط الاقتصادية التي تزيد من التوتر داخل الأسرة وتساهم في تفشي العنف. في مثل هذه الظروف، يُصبح الدين أحيانًا أداة تُستخدم لتبرير العنف بدلاً من معالجته، خاصة عندما تُفسر النصوص الدينية بطريقة تقوي من سيطرة الرجل على المرأة.

د. سليم النجار، أستاذ علم الاجتماع، يعتبر خلال حديثه لـ”شُبّاك” أن العنف الأسري هو نتاج لتراكمات اجتماعية وثقافية تمتد عبر قرون من التقاليد الأبوية، حيث يتم تبرير السلطة الذكورية بوسائل مختلفة، بما في ذلك استخدام النصوص الدينية. وضمن هذا السياق، أشار بأن الدين ليس بحد ذاته مبررًا للعنف، بل إن تفسيراته وتأويلاته في بعض المجتمعات هي التي تُستخدم لتبرير السلوكيات القمعية.

وتابع “من المهم أن نميز بين النصوص الدينية والتفسيرات التي تُعطى لها. في كثير من الأحيان، يتم تسييس الدين واستغلاله لتعزيز هياكل السلطة القائمة. في المجتمعات الأبوية، يتم التركيز على تفسيرات دينية معينة تُعطي الرجل سلطة مطلقة داخل الأسرة، مع تهميش دور المرأة وتحويلها إلى كائن تابع. هذا التفسير الضيق لا يعكس القيم الحقيقية للدين، بل يعكس ثقافة اجتماعية قائمة على السيطرة الذكورية”.

إن مواجهة العنف الأسري تتطلب جهودًا متكاملة تتضمن إعادة تفسير النصوص الدينية من منظور حقوق الإنسان، وتعزيز الوعي المجتمعي حول خطورة تبرير العنف بأي شكل من الأشكال. في الوقت نفسه، يجب العمل على تغيير الهياكل الاجتماعية التي تعزز من هذه التفسيرات، وذلك من خلال التعليم والإعلام والقوانين.

على سبيل المثال، في كثير من الدول العربية التي شهدت تحديثات قانونية لمكافحة العنف الأسري، لم يكن التحدي الأكبر هو سن القوانين، بل في تغيير العقليات المجتمعية التي ترى في العنف وسيلة مشروعة لحفظ النظام الأسري. هنا يأتي دور العلماء الدينيين والمثقفين في تقديم تفسير جديد للنصوص الدينية، يتماشى مع متطلبات العصر ويعزز من حقوق الإنسان.

بالإضافة إلى ذلك، يجب التركيز على تمكين النساء اقتصادياً واجتماعياً، لأنهن في كثير من الحالات لا يملكن خيارات للخروج من دائرة العنف بسبب تبعيتهن الاقتصادية للرجل. هذه التبعية تجعل من الصعب على النساء رفض العنف أو الإبلاغ عنه، خاصة في ظل وجود ثقافة مجتمعية تُبرر هذا العنف.

في مصر، شهدت البلاد في عام 2022 حادثة مروعة حين قُتلت الشابة نيرة أشرف على يد زميلها بسبب رفضها الزواج منه. هذه الجريمة أثارت جدلاً واسعًا حول العنف ضد النساء في المجتمع المصري، وكيفية تعامل المجتمع والقانون مع هذه الظاهرة. وسائل الإعلام المصرية والعربية غطت القضية بشكل مكثف، مركزة على تأثير الثقافة المجتمعية والدينية في تعزيز النظرة التقليدية التي ترى النساء كممتلكات للرجال. هذا النقاش كشف عن جوانب مظلمة في المجتمع المصري حيث يُستخدم الدين أحيانًا لتبرير السيطرة الذكورية والعنف ضد المرأة.

العراق أيضًا شهد زيادة في حالات العنف الأسري ضد النساء خلال السنوات الأخيرة، خاصة في ظل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعصف بالبلاد. تقارير حقوقية وإعلامية عديدة سلطت الضوء على كيفية تبرير العنف ضد النساء باستخدام الأعراف العشائرية والتفسيرات الدينية. هذه التقارير أظهرت أن التحديات التي تواجه المرأة العراقية لا تنبع فقط من القوانين ولكن أيضًا من الثقافة السائدة التي تعزز السيطرة الذكورية وتبرر العنف داخل الأسرة.

مقاومة العنف الأسري.. دور القانون والمجتمع

في العقود الأخيرة، بدأت تظهر جهود قانونية ومجتمعية لمكافحة العنف الأسري، بدعم من الحركات النسوية والمنظمات الحقوقية. هذه الجهود تهدف إلى تفكيك الهياكل الثقافية والدينية التي تُبرر العنف، وتعزيز حقوق المرأة داخل الأسرة. القوانين التي تُجرم العنف الأسري تمثل خطوة هامة في حماية الضحايا، ولكنها تواجه تحديات كبيرة في المجتمعات التي لا تزال ترى في العنف داخل الأسرة أمرًا مشروعًا.

على سبيل المثال، في بعض الدول، تم تمرير قوانين تجرم العنف الأسري، لكن تطبيق هذه القوانين يظل محدودًا بسبب التحيزات الاجتماعية والثقافية التي تفضل حل النزاعات الأسرية داخليًا دون تدخل القانون. كما أن الافتقار إلى الدعم الاجتماعي والنفسي للضحايا يحد من فعالية هذه القوانين. لذلك، من الضروري تعزيز الوعي المجتمعي من خلال التعليم والإعلام، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا.

في الأردن، قامت الحكومة بتحديث قوانين حماية الأسرة في السنوات الأخيرة لمكافحة العنف الأسري وتوفير حماية أكبر للنساء والأطفال. ومع ذلك، واجهت هذه القوانين مقاومة من بعض الفئات الدينية والاجتماعية التي ترى فيها تهديدًا للتقاليد الثقافية والدينية. هذا الصراع بين التحديث القانوني والتقاليد المتجذرة يعكس التوترات القائمة في المجتمع الأردني حول حقوق المرأة ودورها داخل الأسرة، وكيفية التوفيق بين حماية حقوق الأفراد والحفاظ على القيم الثقافية.

وفي لبنان، أطلقت منظمات حقوقية حملة تحت شعار “مش عيب” بهدف مواجهة وصمة العار المرتبطة بالعنف الأسري وتشجيع النساء على التحدث والإبلاغ عن حالات العنف. الحملة، التي حظيت بدعم واسع من الإعلام اللبناني، سلطت الضوء على الحاجة الملحة لتغيير الثقافة المجتمعية التي تبرر العنف ضد المرأة. من خلال حملات توعوية وبرامج دعم نفسي واجتماعي، سعت هذه الحملة إلى تعزيز فهم جديد للتفسيرات الدينية التي تدعو إلى المساواة والرحمة داخل الأسرة.

وفي السعودية، تم في إطار الإصلاحات الشاملة التي تشهدها البلاد تعديل قانون الأحوال الشخصية ليشمل حماية أكبر للنساء والأطفال من العنف الأسري. هذه التعديلات تضمنت إجراءات صارمة ضد مرتكبي العنف وتوفير حماية قانونية متكاملة للضحايا. ورغم الترحيب بهذه التعديلات، إلا أنها أثارت نقاشات حول كيفية تفسير النصوص الدينية في ضوء التغيرات الاجتماعية والقانونية، والتحديات التي تواجه المجتمع في الابتعاد عن التفسيرات التي قد تبرر العنف الأسري وتعزيز حماية المرأة بشكل شامل.

المنظمات النسوية تلعب دورًا حيويًا في هذا السياق من خلال نشر الوعي حول حقوق المرأة وتقديم الدعم القانوني والنفسي للضحايا. هذه الجهود تسعى إلى تغيير الثقافة الاجتماعية التي تبرر العنف وتعزز من احترام حقوق الإنسان داخل الأسرة.

العنف الأسري هو ظاهرة معقدة تتشابك فيها العوامل الثقافية والدينية والاجتماعية. في حين أن الدين قد يُستخدم في بعض الأحيان لتبرير العنف، إلا أنه قد يكون أيضًا في بعض الأحيان وسيلة قوية للتحرر والمساواة. التحدي يكمن في كيفية استخدام النصوص الدينية بطريقة تعزز من حقوق الإنسان وتحمي الأفراد من العنف. هذا يتطلب جهدًا مشتركًا من رجال الدين، صانعي السياسات، والمجتمع ككل لتعزيز ثقافة السلام والاحترام داخل الأسرة.

إن مكافحة العنف الأسري تتطلب تحولاً ثقافيًا عميقًا يبدأ بتغيير التصورات التقليدية حول دور الدين والسلطة داخل الأسرة. يجب أن ندرك أن العنف ليس حتمية دينية أو ثقافية، بل هو خيار يتم دعمه أو مقاومته من خلال التفسيرات الدينية والثقافية التي نختار تبنيها. من خلال تعزيز التعليم، التوعية، وتطبيق القوانين بشكل فعال، يمكننا أن نبدأ في تفكيك الهياكل التي تدعم العنف وتحقيق العدالة والمساواة داخل الأسرة والمجتمع.

Related Post