الخميس. أكتوبر 17th, 2024

مستقبل التأمين في ظل تغير المناخ: استراتيجيات جديدة لمواجهة التحديات المتصاعدة

وفقًا للتقارير الاقتصادية، فإن الخسائر التي يتوقع أن يتحملها قطاع التأمين ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة لتراكم العديد من العوامل على مدار السنوات الماضية. التوسع الحضري السريع، وزيادة الكثافة السكانية في المناطق المعرضة للكوارث، بالإضافة إلى تأثيرات تغير المناخ المتزايدة، كلها عوامل ساهمت في هذه الخسائر. من بين الخسائر المتوقعة، نجد أن الكوارث مثل العواصف المدارية وحرائق الغابات تسهم بالنصيب الأكبر، حيث أن هذه الظواهر الطبيعية أصبحت أكثر شدة وتكرارًا، مما يضغط بشكل متزايد على شركات التأمين التي تجد نفسها مضطرة لدفع تعويضات أكبر في فترات زمنية أقصر.

التقارير أيضًا تشير إلى أن تأثيرات تغير المناخ بدأت تصبح أكثر وضوحًا مع مرور الوقت، ومن المتوقع أن تزداد هذه التأثيرات في المستقبل القريب. بينما قد تبدو نسبة 1% من الزيادة السنوية في الخسائر مرتبطة بتغير المناخ ضئيلة، إلا أن التوقعات تشير إلى أن هذه النسبة ستزداد بشكل ملحوظ مع استمرار التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة العالمية.

وبسبب تزايد حجم المخاطر المرتبطة بالكوارث الطبيعية، بدأت بعض شركات التأمين في الانسحاب من الأسواق التي تعتبرها عالية المخاطر. على سبيل المثال، قامت شركة “Aviva” في عام 2021 بوقف تقديم التأمين للشركات التي تحقق أكثر من 5% من إيراداتها من الفحم أو الوقود الأحفوري غير التقليدي، ما لم تتبنى تلك الشركات أهدافًا لخفض انبعاثات الكربون. هذا التوجه يعكس التحديات التي تواجهها شركات التأمين في الحفاظ على الربحية في ظل تزايد الضغوط المناخية والتنظيمية.

تأثيرات تغير المناخ والتوسع الحضري

التغيرات المناخية ليست مجرد مسألة بيئية، بل أصبحت قضية اقتصادية مؤثرة على نطاق واسع. تأثيرات الكوارث الطبيعية، مثل الأعاصير والفيضانات وحرائق الغابات، أصبحت أكثر تطرفًا وانتشارًا، مما يرفع من تكلفة التغطية التأمينية ويجبر شركات التأمين على إعادة تقييم نماذج المخاطر. الأضرار الناجمة عن هذه الكوارث ليست مقتصرة على المباني والمنشآت فحسب، بل تمتد لتشمل الاقتصاديات المحلية والمجتمعات بشكل عام، حيث تزداد تعقيدات التعامل مع هذه الكوارث وتكاليف التعافي منها.

التوسع الحضري السريع، خاصة في المناطق التي تعتبر عرضة للكوارث الطبيعية، يزيد من التعرض للمخاطر. التحضر الذي يحدث دون تخطيط مناسب يأخذ في الاعتبار المخاطر المناخية يجعل المجتمعات أكثر هشاشة أمام الكوارث، ويزيد من التحديات التي تواجهها شركات التأمين في تقديم تغطية مناسبة وفعالة. هذا التوسع غير المنظم يمكن أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في عدد المطالبات التأمينية، مما يزيد من الضغط على شركات التأمين التي تجد نفسها في مواجهة سلسلة من المطالبات المستمرة والمتزايدة.

في سبتمبر 2022، تسبب إعصار إيان في خسائر تأمينية قدرت بين 50 و65 مليار دولار، مما جعله واحدة من أغلى الكوارث الطبيعية في تاريخ الولايات المتحدة. تأثيرات هذا الإعصار لم تقتصر على الولايات المتحدة فحسب، بل أثرت أيضًا على أسواق التأمين العالمية، حيث أُجبرت العديد من الشركات على إعادة تقييم نماذج المخاطر وتعديل أسعار التغطية. هذا الحدث يسلط الضوء على التحديات التي تواجه شركات التأمين في التعامل مع الكوارث المناخية المتزايدة.

كذلك شهدت أوروبا في فبراير 2022 سلسلة من العواصف الشتوية الشديدة، مثل العواصف “دودلي”، “يونيس”، و”فرانكلين”، التي تسببت في خسائر تأمينية تجاوزت 3.7 مليار دولار. في المملكة المتحدة وحدها، تلقت شركات التأمين 177,000 مطالبة لتغطية أضرار المنازل والمركبات، مما أضاف ضغطًا كبيرًا على الصناعة ودفع بعض الشركات إلى النظر في سحب التغطية من المناطق الأكثر عرضة لهذه المخاطر​.

تأثيرات اقتصادية واسعة

ارتفاع عدد وشدة المطالبات الناجمة عن الكوارث الطبيعية أدى إلى ضغوط كبيرة على شركات التأمين، مما أثر بشكل مباشر على أسعار التأمين وإمكانية الوصول إلى التغطية. في بعض الحالات، قررت شركات التأمين الانسحاب تمامًا من أسواق معينة، خاصة تلك التي تعتبر عالية المخاطر. هذه الانسحابات تترك فراغًا تأمينيًا قد يؤدي إلى تفاقم الفقر وزيادة المخاطر الاجتماعية في المجتمعات المتأثرة.

من جانب آخر، تشير التقارير إلى أن الكوارث الطبيعية في الولايات المتحدة وحدها قد أسفرت عن خسائر تأمينية ضخمة بلغت 99 مليار دولار في عام 2022، مقارنة بـ 25 مليار دولار فقط في عام 2019. هذا الارتفاع الكبير يعكس التأثيرات المتزايدة لتغير المناخ على الاقتصاد، ويثير تساؤلات حول مدى قدرة شركات التأمين على الاستمرار في تقديم خدماتها في ظل هذه التحديات المتصاعدة. الضغط المتزايد على القطاع قد يؤدي أيضًا إلى إعادة هيكلة شاملة، حيث تبحث الشركات عن وسائل جديدة لإدارة المخاطر وتقليل التزاماتها المالية.

الخبير الاقتصادي والمتخصص بالمالية العامة، أحمد الرفاعي، قال خلال حديثه لـ”شُبّاك” إن التحديات التي يواجهها قطاع التأمين اليوم تعتبر غير مسبوقة في تاريخ الصناعة. “ما نشهده الآن هو تداخل معقد بين عدة عوامل اقتصادية وبيئية تجعل من الصعب التنبؤ بالمخاطر المستقبلية وإدارتها بفعالية. الكوارث الطبيعية المتزايدة، إلى جانب تغير المناخ، ليست مجرد أحداث منفصلة، بل هي جزء من نظام أكبر من التغيرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي”.

وتابع مضيفًا بأن “أحد الأمور التي يجب أن ننتبه إليها هو أن تأثيرات تغير المناخ لم تعد تقتصر على الخسائر المباشرة الناتجة عن الكوارث الطبيعية. نحن نتحدث هنا عن آثار مضاعفة تتجلى في صورة تقلبات اقتصادية واسعة، مثل اضطراب سلاسل التوريد، وزيادة التضخم نتيجة ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وتغيير أنماط الاستثمار بشكل عام. على سبيل المثال، مع تزايد حدة الكوارث، نجد أن شركات التأمين أصبحت أكثر تحفظًا في توفير التغطية في بعض المناطق المعرضة للخطر، مما يدفع الحكومات والشركات إلى البحث عن بدائل تمويلية وتأمينية أكثر ابتكارًا.”

من ناحية أخرى، يجب إدراك أن تغير المناخ قد يؤدي إلى إعادة تشكيل جذري لأسواق التأمين العالمية. فالشركات التي تستطيع التكيف مع هذه الظروف الجديدة، سواء من خلال ابتكار منتجات تأمينية جديدة أو من خلال تعزيز شراكاتها مع الحكومات والمجتمعات المحلية، ستكون في وضع أفضل للبقاء والاستمرار. في المقابل، الشركات التي تعتمد على النماذج التقليدية في إدارة المخاطر قد تجد نفسها غير قادرة على المنافسة في ظل التغيرات الحالية.

وختم حديثه بالقول “النقطة الأخيرة التي أود الإشارة إليها هي أن التغيرات المناخية تفرض ضرورة على قطاع التأمين للاستثمار بشكل أكبر في التكنولوجيا وتحليل البيانات. الذكاء الاصطناعي، وتقنيات البيانات الكبيرة (Big Data)، والتحليل التنبؤي أصبحت أدوات لا غنى عنها لتحليل المخاطر بدقة أكبر وتقديم حلول تأمينية أكثر مرونة وشمولية. هذا الاستثمار في التكنولوجيا لن يكون مجرد خيار، بل سيكون ضرورة للبقاء في السوق والتعامل مع التحديات المتزايدة التي يفرضها المناخ المتغير.”

الخبير الاقتصادي أشار إلى أن التحولات الحالية ليست مجرد تحديات مؤقتة، بل هي إشارات على ضرورة إعادة التفكير في استراتيجيات القطاع بأكمله لمواجهة المستقبل المجهول.

تداعيات مستقبلية على قطاع التأمين

المستقبل يحمل العديد من التحديات لقطاع التأمين، حيث أن تزايد الكوارث الطبيعية سيؤدي إلى تغييرات جوهرية في كيفية عمل هذا القطاع. من المتوقع أن ترتفع أسعار التأمين بشكل كبير، مما قد يجعل الحصول على التغطية أمرًا صعبًا للكثيرين، خاصة في المناطق الأكثر عرضة للكوارث. هذا الارتفاع في الأسعار قد يؤدي إلى تقليل شمولية التغطية، مما يترك العديد من الأفراد والشركات عرضة للمخاطر غير المؤمنة.

من جهة أخرى، قد تلجأ بعض الشركات إلى تقليل التغطية المقدمة أو إدخال استثناءات جديدة مثل استثناءات تغير المناخ، مما يعقد من عملية التأمين ويزيد من التكاليف. هذه التغييرات قد تؤدي أيضًا إلى تزايد الضغوط على الحكومات للتدخل من خلال تقديم دعم إضافي أو إنشاء برامج تأمينية حكومية تهدف إلى تغطية المخاطر التي تعجز الشركات الخاصة عن تحملها.

في المستقبل، من المرجح أن يلعب الابتكار دورًا رئيسيًا في كيفية تكيّف القطاع مع التحديات المتزايدة. استخدام التكنولوجيا المتقدمة وتحليل البيانات قد يساعد في تطوير نماذج تأمينية جديدة تكون أكثر دقة في تقييم المخاطر وأكثر شمولية في تغطيتها. لكن هذه الابتكارات ستتطلب استثمارات كبيرة وقد تواجه مقاومة من الأسواق التقليدية.

السيناريوهات المحتملة

في ظل هذه التحديات المعقدة، يتعين النظر في السيناريوهات المختلفة التي قد تواجهها صناعة التأمين في المستقبل القريب:

إعادة هيكلة عميقة للقطاع: مع تزايد حجم المخاطر، قد تتجه شركات التأمين نحو إعادة هيكلة شاملة تشمل تقليل التغطية المتاحة، زيادة الأسعار، أو حتى الاندماجات بين الشركات لتوزيع المخاطر على نطاق أوسع. هذه الهيكلة قد تؤدي إلى ظهور تكتلات تأمينية عملاقة تسيطر على السوق، ولكنها قد تؤدي أيضًا إلى تقليل المنافسة وزيادة الأسعار بشكل أكبر.

إدخال تشريعات حكومية جديدة: في مواجهة التحديات المتزايدة، قد تتدخل الحكومات من خلال وضع تشريعات جديدة تفرض على شركات التأمين تقديم تغطيات محددة أو تدعم إنشاء برامج تأمينية حكومية لمواجهة الكوارث. هذه التشريعات قد تضع ضغوطًا إضافية على شركات التأمين، ولكنها قد تكون ضرورية لضمان شمولية التغطية وحماية الفئات الأكثر عرضة للخطر.

انتشار التأمين البارامتري: مع تعقيد عملية تقييم الأضرار، قد نشهد انتشارًا أكبر للتأمين البارامتري الذي يعتمد على مؤشرات محددة لتحديد قيمة التعويضات، مثل شدة الكارثة أو مستوى المياه في الفيضانات. هذا النوع من التأمين قد يكون أكثر فعالية وسرعة في توفير التعويضات، ولكنه قد يواجه تحديات في التوسع الشامل بسبب الحاجة إلى بنية تحتية معلوماتية متطورة.

زيادة التعاون بين القطاعين العام والخاص: قد تتجه الحكومات إلى تعزيز التعاون مع شركات التأمين من خلال شراكات تهدف إلى تقليل المخاطر وزيادة الاستثمارات في البنية التحتية المقاومة للكوارث. مثل هذه الشراكات قد تساعد في تقليل التكاليف وتحسين القدرة على التعافي من الكوارث، ولكنها تتطلب تنسيقًا عاليًا واستثمارات ضخمة.

Related Post