الخميس. أكتوبر 17th, 2024

اتفاق الطائف.. بين إنهاء الحرب الأهلية وترسيخ الطائفية

على مدى خمسة عشر عامًا (1975-1990)، عاش لبنان في قلب حرب أهلية طاحنة أودت بحياة عشرات الآلاف وأدت إلى انهيار الدولة وتفكك مؤسساتها. جاء اتفاق الطائف، الذي تم توقيعه في أكتوبر 1989 بمدينة الطائف في المملكة العربية السعودية، كمحاولة لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة اللبنانية على أسس جديدة. إلا أن هذا الاتفاق، رغم نجاحه في إيقاف الحرب وتشكيل حكومة جديدة، يواجه حتى اليوم انتقادات متزايدة لكونه قد رسّخ النظام الطائفي الذي يُعتبر أحد جذور الصراع في الأساس.

الحرب الأهلية اللبنانية كانت نتاجًا لمجموعة معقدة من الأسباب السياسية، الطائفية، والاقتصادية. الطائفية السياسية كانت متجذرة في النظام اللبناني منذ تأسيس الجمهورية. وفقًا للميثاق الوطني لعام 1943، تم تقسيم السلطات السياسية بين الطوائف الدينية، حيث كان الرئاسة الجمهورية للمسيحيين الموارنة، ورئاسة الحكومة للمسلمين السنة، ورئاسة البرلمان للمسلمين الشيعة. ومع تصاعد التوترات بين هذه الطوائف حول السلطة والثروة، تفاقمت الانقسامات، خاصة مع تصاعد النفوذ الفلسطيني في لبنان بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن في السبعينيات. هذا النزاع تطور إلى صراع مسلح بين الميليشيات المسيحية، الفلسطينية، والقوى الإسلامية واليسارية المدعومة إقليميًا.

اتفاق الطائف تم بوساطة دولية وإقليمية، بمشاركة أساسية من سوريا والمملكة العربية السعودية، ودعم من الولايات المتحدة وفرنسا. نص الاتفاق كان يهدف إلى تحقيق التوازن بين الطوائف اللبنانية وإعادة بناء الدولة.

أبرز بنود الاتفاق

إلغاء الطائفية السياسية تدريجيًا: رغم أن الاتفاق دعا إلى إلغاء الطائفية السياسية تدريجيًا، إلا أنه أكد استمرار تقاسم السلطة بين الطوائف الدينية. تم إعادة توزيع السلطات التنفيذية، حيث تم تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي، وزيادة صلاحيات رئيس الحكومة السني.

إعادة بناء الدولة: الاتفاق دعا إلى حل الميليشيات المسلحة، باستثناء حزب الله الذي تم منحه شرعية كـ”مقاومة” ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان. كما نص على إعادة هيكلة الجيش اللبناني واستعادة سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية.

العلاقات السورية اللبنانية: من البنود الأكثر إثارة للجدل كان الاعتراف بالدور السوري في لبنان. نص الاتفاق على وضع إطار للتعاون بين البلدين، مما عزز من النفوذ السوري على السياسات الداخلية اللبنانية.

الانتخابات والتمثيل البرلماني: الاتفاق أعاد توزيع المقاعد البرلمانية بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، حيث أصبحت النسبة 50/50 بدلاً من النظام السابق الذي كان يمنح المسيحيين تفوقًا على المسلمين بنسبة 6:5

إنهاء الحرب أم ترسيخ الطائفية؟

رغم أن اتفاق الطائف نجح في إنهاء الحرب الأهلية وإعادة بناء المؤسسات اللبنانية، إلا أنه لم يتمكن من تجاوز الطائفية بشكل جذري. النظام السياسي الذي تم تكريسه عبر الاتفاق حافظ على توزيع السلطة على أساس طائفي، مما جعل الطائفية أحد الأعمدة الرئيسية للنظام اللبناني. ورغم الدعوات المستمرة لإلغاء الطائفية السياسية، إلا أن هذا الهدف بقي غير محقق حتى اليوم.

من جهة أخرى، ترسيخ الطائفية في النظام السياسي اللبناني أعاق تطور الديمقراطية الحقيقية. التوازن الطائفي بين القوى المختلفة أصبح حاجزًا أمام اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية، مما أدى إلى الشلل السياسي المتكرر، كما أن النظام القائم على المحاصصة الطائفية خلق بيئة تنافسية دائمة بين الزعماء الطائفيين، وأعاق تشكيل رؤية وطنية مشتركة.

التداعيات الإقليمية والدولية

لم يكن اتفاق الطائف مجرد وثيقة داخلية بين الأطراف اللبنانية، بل كان جزءًا من تسوية إقليمية ودولية أكبر. سوريا كانت الطرف الأكثر استفادة من هذا الاتفاق، حيث أعطته الشرعية لبقاء قواتها في لبنان حتى عام 2005. العلاقة بين لبنان وسوريا تحولت إلى علاقة هيمنة سورية على القرار اللبناني، حيث كانت دمشق تلعب دور الوسيط والمقرر في الشؤون الداخلية للبنان، خاصة في تعيين رؤساء الجمهورية والوزراء.

الاتفاق حظي بدعم دولي كبير، خاصة من الولايات المتحدة وفرنسا اللتين رأتاه وسيلة لتحقيق الاستقرار في لبنان، الذي كان يمثل نقطة توتر في منطقة الشرق الأوسط. كما أن إسرائيل كانت تتابع التطورات بحذر، خاصة فيما يتعلق بدور حزب الله الذي استفاد من الاتفاق ليصبح فاعلاً سياسياً وعسكرياً رئيسياً.

النقد المتزايد لاتفاق الطائف

على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عامًا على توقيع اتفاق الطائف، إلا أن الأصوات المطالبة بإعادة النظر فيه تزداد. العديد من النقاد يعتبرون أن الاتفاق، رغم أهميته التاريخية في إنهاء الحرب، قد فشل في وضع الأسس لدولة حديثة قادرة على تجاوز الطائفية.

أحد أبرز الانتقادات هو أن الاتفاق رسخ سيطرة الزعماء الطائفيين على السياسة اللبنانية، حيث أصبحوا قادرين على التحكم في مقدرات الدولة عبر النظام المحاصصي. هذا الأمر أدى إلى تفشي الفساد والمحسوبية، وأعاق أي محاولة جادة للإصلاح السياسي أو الاقتصادي.

كما أن الاتفاق لم يعالج القضايا الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية في المقام الأول. توزيع الثروة والنفوذ في لبنان بقي مرتبطًا بالطوائف، مما أدى إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية.

اتفاق الطائف كان خطوة محورية في تاريخ لبنان، حيث أنهى حربًا أهلية مدمرة وأعاد بناء الدولة اللبنانية على أسس جديدة. لكنه، في الوقت ذاته، رسخ الطائفية كجزء أساسي من النظام السياسي، مما أعاق تطور لبنان كدولة حديثة تعتمد على المواطنة بدلاً من الهوية الطائفية.

في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي يمر بها لبنان اليوم، يبقى السؤال مفتوحًا حول مدى قدرة النظام الذي أرساه اتفاق الطائف على الصمود، وما إذا كان لبنان بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد يتجاوز الطائفية ويؤسس لدولة مدنية تقوم على أسس ديمقراطية حديثة.

Related Post