الخميس. أكتوبر 17th, 2024

العمل والرأسمالية من منظور نسوي.. تفكيك العلاقة بين الجندر والاقتصاد

منذ بدايات التحليل النسوي، تم تسليط الضوء على كيفية ارتباط النظام الاقتصادي الرأسمالي بتعزيز الفروق الجندرية، حيث يتم تحديد الأدوار الاقتصادية والاجتماعية بناءً على الجنس. يرى النسويون أن الرأسمالية ليست مجرد نظام اقتصادي، بل هي بنية اجتماعية تؤثر على العلاقات الجندرية عبر تقديم تقسيمات عمل غير عادلة وتحديد ما يعتبر عملًا “إنتاجيًا” أو “غير إنتاجي”. بينما يحتل الرجال الأدوار المركزية في السوق الاقتصادية الرسمية، يتم إهمال أو تقليل قيمة العمل الذي تقوم به النساء، خاصة العمل المنزلي والرعوي، الذي يُعتبر غير مرئي وغير مدفوع الأجر في الاقتصاد الرأسمالي.

إحدى القضايا المركزية في النقد النسوي للرأسمالية هي مسألة العمل المنزلي غير المدفوع. هذا النوع من العمل يشمل الرعاية، التنظيف، الطبخ، وتربية الأطفال، وغالبًا ما يُعتبر عملًا أنثويًا بحتًا. في الاقتصادات الرأسمالية التقليدية، يُنظر إلى العمل المنزلي باعتباره نشاطًا غير اقتصادي لأنه لا يولد دخلًا مباشرًا، ما يجعله غير مرئي في حسابات الناتج المحلي الإجمالي أو في السياسات الاقتصادية.

لكن من وجهة نظر نسوية، هذا النوع من العمل هو أساس النظام الرأسمالي ذاته، إذ يساهم في إعادة إنتاج قوة العمل من خلال رعاية الأجيال الجديدة ودعم العمال من الذكور. بدون العمل المنزلي، لن يكون بالإمكان ضمان استمرار العمل في السوق الرسمي، ومع ذلك، تظل النساء اللواتي يقمن بهذا العمل غير مدفوعات وغير معترف بهن.

وفقًا للعديد من الدراسات النسوية، العمل المنزلي يُعزز من تقسيم الجندر للعمل، حيث تتحمل النساء العبء الأكبر في المنزل، مما يحد من فرصهن في المشاركة في القوى العاملة المدفوعة الأجر والمساواة الاقتصادية. هذا النظام يعيد إنتاج الهيمنة الجندرية ويعزز من الفوارق بين الجنسين في القدرة الاقتصادية والتفاوض على السلطة في المجتمع.

الفجوة الجندرية في الأجور

ترى النسويات أن الرأسمالية استغلت النساء كقوة عاملة أقل تكلفة على مر العقود. في سوق العمل الرأسمالي، غالبًا ما تُدفع أجور أقل للنساء مقابل نفس العمل الذي يؤديه الرجال، مما أدى إلى ظهور ما يُعرف بـ “الفجوة الجندرية في الأجور”. هذه الفجوة تتراوح بين 20 إلى 30% في معظم الاقتصادات العالمية، حيث يُعتبر عمل النساء أقل قيمة أو يُنظر إليهن على أنهن أقل قدرة على القيادة أو تحقيق الأرباح مقارنة بالرجال.

هذه الفجوة لا تقتصر على الفروقات في الأجور فحسب، بل تمتد لتشمل “السقف الزجاجي” الذي يمنع النساء من الوصول إلى المناصب القيادية والتنفيذية. النساء غالبًا ما يتم حصرهن في وظائف خدمية، رعاية، أو مكتبية، بينما يتفوق الرجال في الحصول على المناصب العليا التي تحمل سلطة واتخاذ القرارات. هذا النوع من التمييز النظامي يعتبر جزءًا من العلاقة الجذرية بين الجندر والرأسمالية، حيث يُستغل الجندر كأداة لتبرير الفروق في الأجور والوصول إلى الفرص.

دور النسوية الاشتراكية.. الربط بين الجندر والطبقة

النسوية الاشتراكية تقدم منظورًا متقدمًا لفهم العلاقة بين الجندر والرأسمالية. بحسب هذا الاتجاه النسوي، يجب تحليل الاستغلال الاقتصادي والتمييز الجندري كجزء من بنية استغلال أوسع تشمل الطبقة الاجتماعية. هذا التحليل يعكس وجهة نظر كارل ماركس حول الرأسمالية كآلية استغلالية، لكنه يُضيف أن هذا الاستغلال لا يقتصر على العمال كفئة اقتصادية، بل يمتد ليشمل النساء كفئة مضطهدة بسبب الجندر.

النسويات الاشتراكيات، مثل سيلفيا فيديريتشي، يقدمن تفسيرًا حول كيفية عمل النظام الرأسمالي على أساس استغلال الجندر إلى جانب الطبقة. تعتقد فيديريتشي أن النظام الرأسمالي يستخدم المرأة كعامل إنتاج مجاني من خلال العمل المنزلي غير المدفوع، مما يسمح بتراكم رأس المال وتقليل تكلفة الإنتاج. هذا الاستغلال يتم بفضل تقسيم العمل الجنسي الذي يجعل المرأة مسؤولة عن إعادة إنتاج الحياة اليومية دون الاعتراف بقيمة هذا العمل.

إلى جانب النقد النسوي التقليدي للرأسمالية، تقدم النسوية التقاطعية رؤية أعمق حول كيف أن الجندر يتقاطع مع العرق والطبقة لتشكيل أنظمة معقدة من الاستغلال. النساء الملوّنات، على سبيل المثال، يعانين من استغلال مضاعف في الاقتصادات الرأسمالية، حيث يتم تهميشهن بشكل مزدوج بسبب جندريتهن وعرقهن.

العديد من النساء العاملات في القطاعات الخدمية أو الرعاية في العالم المعاصر هن من الفئات المهاجرة أو الملوّنة، ويُدفع لهن أجور زهيدة مقابل ساعات عمل طويلة، بينما يتحملن العبء الأكبر في الرعاية المنزلية. هذه الفئة تجد نفسها محصورة في وظائف غير مستقرة وغير محمية قانونيًا، مما يعكس استغلالًا إضافيًا بسبب موقعهن الجندري والعرقي في النظام الرأسمالي العالمي.

الدكتور سمير عفيف، أستاذ الاقتصاد السياسي، يعتبر خلال حديثه لـ”شُبّاك” بأن الرأسمالية الحديثة لا يمكن فهمها دون تحليل عميق لكيفية تقسيم العمل بناءً على الجندر. “إن استغلال النساء ضمن النظام الرأسمالي يمثل استراتيجية لتقليل تكلفة العمل والحفاظ على الهوامش الربحية. من خلال تحديد أجور أقل للنساء وتجاهل القيمة الاقتصادية للعمل المنزلي غير المدفوع، تمكنت الرأسمالية من الاستفادة من جهود نصف السكان تقريبًا دون مكافأتهم بشكل عادل.”

على مر العقود، استغل النظام الرأسمالي الحركات النسوية لتحقيق بعض المكاسب الظاهرية، مثل إدخال النساء إلى سوق العمل، لكنه لم يُصحح الفجوة الكبيرة في الأجور بين الجنسين ولم يقدم حلولاً جذرية للتوزيع العادل للثروة والموارد. بحسب عفيف. ويتابع بأن الرأسمالية، في نهاية المطاف، تسعى إلى تعظيم الأرباح، وللقيام بذلك، فإنها تحتاج إلى استمرار تقسيم العمل الجنسي بما يعزز فكرة أن الرجال هم الفاعلون الرئيسيون في السوق، بينما النساء هن فاعلات هامشيات.

الدكتور عفيف يرى أن الحل يكمن في إعادة تقييم العمل المنزلي وتحويله إلى جزء من الحسابات الاقتصادية الرسمية، مشيرًا إلى أن أي نظام اقتصادي لا يعترف بهذا العمل هو نظام قائم على استغلال بنيوي. كما يدعو إلى تطبيق سياسات أكثر شمولية تدفع نحو تحقيق العدالة الجندرية في سوق العمل وأطر الإنتاج.

النسوية وتحديات إعادة توزيع الثروة والعمل

من منظور نسوي، الحل لتفكيك العلاقة بين الجندر والرأسمالية يتطلب إعادة توزيع الثروة والعمل. يجب إعادة تقييم العمل المنزلي والرعوي من خلال دفع أجور عادلة لمن يقوم به، أو على الأقل الاعتراف بأهميته الحيوية للمجتمع ككل. هذا قد يتطلب سياسات اقتصادية نسوية تركز على تحقيق المساواة بين الجنسين في الأجور والفرص، وتوفير رعاية الأطفال والإجازات المدفوعة للوالدين.

كما تدعو النسويات إلى تفكيك الأنظمة الرأسمالية التي تستخدم الجندر كأداة لاستغلال النساء في سوق العمل وتوجيه سياسات تشجع المساواة الاقتصادية. هذا يشمل تشريعات تفرض الشفافية في الأجور وتحد من التمييز الجنسي في أماكن العمل.

ليلى عبد الرحمن، المفكرة النسوية والباحثة في الاقتصاد الجندري، تشير خلال حديثها لـ”شُبّاك” إلى أن الرأسمالية استغلت النساء بشكل مضاعف؛ فمن جهة تُفرض عليهن أدواراً جندرية محددة تقيدهن في العمل المنزلي والرعوي غير المدفوع، ومن جهة أخرى، حين يدخلن سوق العمل، يتم تقليص أجورهن ووضعهن في وظائف متدنية القيمة بالمقارنة مع الرجال. “النظام الرأسمالي بنى أسسه على تقسيم العمل الجندري كأداة للسيطرة والاستغلال، حيث تُعامل النساء كقوة عاملة رخيصة أو حتى مجانية.”

ليلى عبد الرحمن تشير إلى أن الفجوة الجندرية في الأجور ليست مسألة عرضية في النظام الرأسمالي، بل هي نتيجة للهيكل الاقتصادي ذاته، الذي يقوم على تقليل تكاليف الإنتاج على حساب الفئات الهامشية، ومن بينهم النساء. كما ترى أن الرأسمالية لا تقدم حلولاً كافية لتحرير النساء، بل على العكس، تعتمد على إبقائهن في مواقع دونية للحفاظ على استمرار النظام.

تدعو ليلى إلى تبني مقاربات نسوية راديكالية تتضمن إلغاء التمييز الجندري في الأجور ووضع إطار قانوني لضمان العدالة الاقتصادية بين الجنسين، بما في ذلك إدراج العمل المنزلي كجزء من الاقتصاد الرسمي، وخلق نظام دعم اجتماعي يحرر النساء من عبء الأدوار الجندرية المفروضة عليهن.

برأينا فإن العلاقة بين الرأسمالية والجندر متجذرة في نظام يهدف إلى استغلال النساء واستبعادهن من المجال الاقتصادي الرسمي، مما يعزز الفوارق بين الجنسين ويؤدي إلى تهميش النساء في المجتمع. من خلال إعادة النظر في هيكلية النظام الاقتصادي الرأسمالي وإدخال سياسات تسعى إلى تحقيق المساواة الجندرية، يمكن بناء اقتصاد أكثر عدالة للجميع.

Related Post