الخميس. أكتوبر 17th, 2024

الهوية الجماعية.. كيف تصيغ المجتمعات العربية الأفراد عبر الهوية القومية أو القبلية؟

في المجتمعات العربية، تعتبر الهوية الجماعية من أهم العوامل التي تصوغ سلوك الأفراد ومكانتهم في المجتمع. سواء كانت الهوية القومية أو القبلية، تلعب دورًا حاسمًا في تحديد الانتماء والتفاعل الاجتماعي، وهي محور أساسي لفهم كيفية بناء الفرد في إطار جماعي في المجتمعات العربية. لكن يبقى السؤال: كيف تتفاعل هذه الهوية الجماعية مع الفرد؟ وكيف تتداخل الهويات القومية والقبلية لتحديد سلوكيات الأفراد ومعاييرهم في تلك المجتمعات؟

الهوية القومية هي البناء السياسي والاجتماعي الذي يربط الأفراد بأمة واحدة تقوم على فكرة الأرض المشتركة، التاريخ، اللغة، والثقافة. في معظم الدول العربية الحديثة، الهوية القومية ظهرت كجزء من حركات الاستقلال التي انتعشت بعد فترة الاستعمار في منتصف القرن العشرين. القومية العربية، كأيديولوجية وحدوية، تسعى إلى تعزيز الانتماء العربي عبر الهوية المشتركة التي تجمع الدول العربية.

أحد أبرز الأمثلة على تأثير الهوية القومية في تشكيل الأفراد هو مصر في عهد جمال عبد الناصر. عبر خطاباته وحركاته السياسية، عمل عبد الناصر على تعزيز القومية العربية كهوية سياسية تهدف إلى تحرير الأمة العربية من الهيمنة الغربية. من خلال ذلك، تم تكوين تصور موحد للفرد العربي الذي يجب أن يعمل من أجل مصالح الأمة، مما عزز من التماسك الداخلي للدولة ومنح الأفراد شعورًا بالانتماء إلى شيء أكبر من أنفسهم.

رغم ذلك، فإن الهوية القومية في العديد من الدول العربية قد تواجه تحديات بسبب وجود تعدديات إثنية أو دينية. في سوريا، على سبيل المثال، أدى التعدد الطائفي والعرقي إلى صعوبات في تحقيق هوية قومية عربية جامعة. هذه التحديات أثارت تساؤلات حول قدرة الهوية القومية على استيعاب التنوع الداخلي وتعزيز التماسك الاجتماعي.

الدكتور عادل الخالدي، المتخصص في العلوم الاجتماعية، يرى خلال حديثه لـ”شُبّاك” أن المجتمعات العربية تواجه تحديًا كبيرًا فيما يتعلق بتوازن الهوية الجماعية بين القومية والقبلية. كذلك يوضح الخالدي: “الهوية القومية التي تم الترويج لها بعد الاستقلال كانت تهدف إلى تعزيز الانتماء الوطني وجمع المجتمعات تحت مظلة واحدة. لكن المشكلة تكمن في أن هذه الهوية كانت دائمًا تواجه تحديًا من قبل الهويات القبلية التي لها جذور عميقة في المجتمعات العربية. القبيلة ليست مجرد جماعة اجتماعية، بل هي نظام معقد يمتد عبر الزمن ويمثل جزءًا من حياة الأفراد.”

الخالدي يشير إلى أن قوة الهوية القبلية تتجاوز الأبعاد الاجتماعية لتصل إلى المجال السياسي. “في العديد من الدول العربية، النظام السياسي لا يزال يعتمد إلى حد كبير على الولاءات القبلية لتحقيق الاستقرار السياسي والتمسك بالسلطة. على سبيل المثال، في دول الخليج، تُعتبر القبائل قاعدة اجتماعية وسياسية قوية تساعد على توحيد النظام السياسي وضمان الدعم الشعبي.”

ويرى الخالدي أن تعزيز الهوية القومية يتطلب معالجة قضايا العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية التي تعزز شعور الأفراد بالانتماء للدولة. “إذا أرادت الدول العربية تقوية الهوية القومية على حساب الهويات القبلية، فعليها أن تخلق نظامًا عادلًا يمكن للأفراد من خلاله أن يشعروا بأنهم ينتمون لمجتمع مشترك، وليس لنظام يفضل فئة اجتماعية على أخرى.”

ولاء القبيلة أولًا

في المناطق الريفية والصحراوية من العالم العربي، لا تزال الهوية القبلية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل الأفراد. القبيلة ليست فقط وحدة اجتماعية أو ثقافية، بل هي نظام اجتماعي يقوم على الانتماء والولاء للجماعة. يضع هذا النظام الولاء للقبيلة فوق أي هوية أخرى، بما في ذلك الهوية الوطنية أو القومية.

في دول الخليج العربي مثل السعودية واليمن، لا يزال الانتماء القبلي جزءًا لا يتجزأ من هوية الفرد. الأفراد الذين ينتمون إلى قبيلة معينة يتمتعون بتضامن قوي مع أبناء القبيلة، حيث تعتبر القبيلة هي المصدر الرئيسي للحماية الاجتماعية، الدعم الاقتصادي، والتوجيه الأخلاقي. هذا الانتماء الجماعي يحدد إلى حد كبير مكانة الفرد داخل المجتمع، ويوفر له إطارًا معنويًا وماديًا يدعمه في الأوقات الصعبة.

ومع ذلك، تواجه المجتمعات العربية التي تعتمد على الهويات القبلية تحديات في التكيف مع تطورات العصر الحديث. في بعض الأحيان، يتداخل الولاء القبلي مع مصالح الدولة الوطنية ويعرقل بناء مؤسسات حديثة تعتمد على المواطنة بدلًا من العلاقات القبلية. يمكن ملاحظة هذا التحدي في اليمن وليبيا، حيث أسفرت النزاعات الداخلية عن تفكك النظام الوطني واستعادة القبائل لدورها في التحكم بالشؤون المحلية.

التوتر بين الهوية القومية والقبلية

يشكل التوتر بين الهوية القومية والقبلية صراعًا دائمًا في العديد من الدول العربية. بينما تسعى الدول إلى بناء هوية قومية توحد جميع المواطنين تحت راية وطنية واحدة، تظل القبيلة عاملًا قويًا يعزز الانتماءات المحلية. هذا الصراع واضح في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، حيث عادت القبائل لتلعب دورًا محوريًا في إدارة الشؤون المحلية بعد انهيار الدولة المركزية.

النظام القبلي في هذه الحالة قد يكون قوة تدميرية، حيث أنه يعزز من انقسامات داخلية بين المجموعات المختلفة، ما يعوق الجهود الرامية إلى بناء دولة قومية موحدة. في المقابل، قد تلجأ بعض الحكومات إلى التعاون مع القبائل لتحقيق الاستقرار السياسي، مثلما يحدث في بعض دول الخليج العربي حيث تستخدم الهياكل القبلية لتعزيز الدعم الداخلي للنظام الحاكم.

على المستوى الفردي، يجد الأفراد أنفسهم عالقين بين ولاءين متناقضين: الولاء للدولة أو الأمة من جهة، والولاء للقبيلة من جهة أخرى. في هذه الحالة، يواجه الأفراد ضغوطًا من كلا النظامين لتلبية توقعات مختلفة، سواء كانت قومية أو قبلية.

في المجتمعات التي تعتمد على الهوية القبلية، الفرد ليس كيانًا مستقلاً بل هو جزء من جماعة أكبر تلعب دورًا كبيرًا في حياته اليومية. يتحكم نظام القبيلة في القواعد الاجتماعية التي يجب أن يتبعها الفرد، مما يجعله متماسكًا مع المجتمع المحلي ولكنه في الوقت نفسه قد يشعر بعدم الارتياح تجاه الهوية القومية التي قد تفرض عليه إطارًا قانونيًا أو أخلاقيًا مختلفًا.

الدكتورة ليلى النجار، الباحثة في الأنثروبولوجيا الثقافية، تُقدّم خلال حديثها لـ”شُبّاك” رؤية موسعة حول كيفية تأثير الهويات القبلية على تكوين الأفراد في المجتمعات العربية. تقول النجار: “القبيلة تلعب دورًا أكبر من مجرد تنظيم اجتماعي، بل هي تشكل منظومة ثقافية ومعيارية تحدد من خلالها القيم والأخلاق وحتى العلاقات الاجتماعية. في العديد من المناطق العربية، تُعد القبيلة مصدرًا رئيسيًا للانتماء الاجتماعي والاقتصادي، وهي توفر الحماية والتوجيه للأفراد الذين يعيشون في إطارها.”

وترى النجار أن أحد التحديات الرئيسية التي تواجه المجتمعات العربية هو التوتر بين الهوية القبلية والهوية القومية. “بينما تسعى الدولة الحديثة إلى ترسيخ الهوية القومية التي تعتمد على مفهوم المواطنة الشاملة، تقاوم القبيلة هذه الجهود من خلال الحفاظ على هياكلها التقليدية والعلاقات الاجتماعية الخاصة بها. هذا التناقض يؤدي إلى نوع من الازدواجية في ولاء الأفراد، حيث يكونون مطالبين بالالتزام بالهوية القومية، ولكنهم يجدون أنفسهم منجذبين نحو القبيلة كمصدر رئيسي للهوية.”

تشير النجار إلى أن الحل يكمن في إيجاد مساحة توافقية بين الهوية القومية والقبلية. “لا يمكن إلغاء الهوية القبلية بسهولة لأنها جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والتاريخي للمجتمعات العربية. لكن من الممكن تحقيق نوع من التكامل بين الهوية القومية والقبلية إذا ما تم تعزيز ثقافة الانتماء المشترك والقيم التي تجمع بين الهويات المختلفة، مع احترام الهويات المحلية والتعددية الثقافية.”

الهوية الجماعية والفردية

مع تزايد التحديث والعولمة في العالم العربي، تزداد التحديات التي تواجه الهوية الجماعية سواء كانت قومية أو قبلية. الأجيال الجديدة تجد نفسها أمام خيارات متعددة: هل تنتمي إلى الأمة أم إلى القبيلة؟ وهل يمكن الجمع بين الهويتين دون أن تكون إحداهما على حساب الأخرى؟

العديد من الشباب العربي اليوم يجدون أنفسهم منجذبين نحو هويات جديدة ترتبط بالعولمة والتكنولوجيا، مما يخلق فضاءات جديدة لتشكيل الهوية الفردية بعيدًا عن القومية أو القبلية. ومع ذلك، تبقى الهويات التقليدية مؤثرة إلى حد كبير، حيث توفر إحساسًا بالاستقرار والانتماء في عالم مضطرب.

الهوية الجماعية في العالم العربي تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الأفراد، سواء من خلال الهوية القومية أو القبلية. هذا الصراع بين الولاءات المتعددة يعكس التحديات التي تواجهها المجتمعات العربية في محاولة للتوفيق بين الماضي التقليدي والمستقبل الحديث. وبينما تستمر الهوية القومية في محاولة توحيد المجتمعات، يبقى للهوية القبلية دور قوي في تحديد مكانة الفرد ودوره الاجتماعي.

Related Post