الخميس. أكتوبر 17th, 2024

النسوية والتضامن العابر للحدود.. ماذا عن بناء حركات نسوية إقليمية عربية؟

لطالما كانت النسوية في العالم العربي تعكس تعقيدات تتجاوز القضايا المحلية. فهي ليست فقط حركة تطالب بحقوق النساء داخل حدود معينة، بل هي أيضًا حركة تسعى إلى بناء تضامن نسوي يتجاوز الحدود الجغرافية، الثقافية، والدينية. في هذا السياق، يتزايد الحديث حول مفهوم “التضامن العابر للحدود”، الذي يشير إلى ضرورة توحيد الحركات النسوية الإقليمية في مواجهة التحديات المشتركة. لكن كيف يمكن تحقيق هذا التضامن في ظل اختلافات الثقافة، السياسة، والظروف الاجتماعية بين الدول العربية؟ وكيف يمكن للحركات النسوية أن تواجه التحديات الإقليمية المشتركة مثل التشريعات التمييزية، العنف المبني على النوع الاجتماعي، والتحديات الاقتصادية؟ في هذا التحليل، نناقش إمكانية بناء حركات نسوية إقليمية قوية في العالم العربي، مع التركيز على التحديات والفرص.

التضامن النسوي

التضامن النسوي العابر للحدود هو مفهوم يعكس فكرة توحيد الجهود بين النساء والمنظمات النسوية عبر الدول والمناطق لمواجهة التحديات المشتركة. هذا التضامن لا يعني فقط العمل على مستوى محلي لتحقيق تقدم في حقوق المرأة، بل يشير إلى قدرة النساء في مختلف البلدان على دعم بعضهن البعض وتبادل الخبرات في مواجهة القضايا النسوية العالمية. في العالم العربي، يعتبر التضامن النسوي أكثر من مجرد فكرة نظرية؛ إنه حاجة ملحة في ظل التشابه الكبير بين التحديات التي تواجه النساء في معظم الدول العربية.

التشريعات التمييزية مثل قوانين الأحوال الشخصية التي لا تزال تميز بين الجنسين، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والقيود الاقتصادية التي تواجهها النساء، كلها قضايا تحتاج إلى مواجهة شاملة. هنا يأتي دور التضامن النسوي العابر للحدود في توفير الدعم المتبادل وتبادل الخبرات لتطوير استراتيجيات فعّالة تتخطى حدود دولة معينة.

شهدت الحركات النسوية في العالم العربي تطورًا ملحوظًا خلال القرن العشرين، حيث ظهرت العديد من النماذج الناجحة للتضامن النسوي بين مختلف الدول. أحد أبرز الأمثلة على هذا التضامن هو مؤتمر المرأة العربي الذي نُظم في القاهرة عام 1944، حيث اجتمعت نساء من مختلف الدول العربية لمناقشة القضايا التي تواجه النساء في المنطقة وتوحيد الجهود لتحقيق الإصلاحات القانونية والاجتماعية. كان هذا المؤتمر خطوة تاريخية نحو بناء حركة نسوية إقليمية، حيث تم التطرق إلى قضايا مثل التعليم، حقوق التصويت، والزواج المبكر.

في العقود التالية، ازدادت قوة هذا التضامن مع تزايد نشاط المنظمات النسوية مثل اتحاد النساء العربيات، الذي يهدف إلى توحيد جهود النساء في العالم العربي لمواجهة التحديات المشتركة. هذه الحركات لم تقتصر على النضال داخل الحدود الوطنية، بل سعت إلى تعزيز التعاون الإقليمي بين النساء العربيات لتحقيق تغييرات شاملة.

ترى الدكتورة ليلى أحمد، المتخصصة في الدراسات النسوية والنوع الاجتماعي، بأن التضامن النسوي العابر للحدود في العالم العربي يتطلب إعادة النظر في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية التي تعيق النساء من تحقيق تقدم فعلي. وفقًا لأحمد، التضامن لا يعني فقط التجمع حول القضايا المشتركة بل يجب أن يكون حركة واعية لتعريف وتحدي الأنظمة التي تكرس عدم المساواة بين الجنسين. “التحدي الأكبر هو أننا غالبًا ما نعتبر أن النسوية محصورة في مطالب الحقوق الفردية مثل التعليم والعمل، لكن التغيير الحقيقي يتطلب إعادة بناء الأنظمة السياسية والاجتماعية التي تضع النساء في أدوار هامشية.”

تعتبر أحمد أن التضامن النسوي الإقليمي يمكن أن يكون أداة فعّالة لمواجهة هذه الأنظمة من خلال الربط بين النسوية وحقوق الإنسان في إطار أوسع. تشير إلى أن النسويات في العالم العربي بحاجة إلى العمل على تعزيز أصوات النساء من الفئات المهمشة مثل النساء الريفيات والنساء ذوات الاحتياجات الخاصة، الذين غالبًا ما يُغفل عن قضاياهم في الخطاب النسوي. “يجب أن يكون التضامن حقيقيًا وشاملاً، ويعني ذلك أن الحركات النسوية في المدن الكبرى يجب أن تستمع إلى النساء في الأطراف، وتعمل على تعزيز حقوقهن بنفس القوة التي تعمل بها على تعزيز حقوق النساء في الطبقات المتوسطة والحضرية.”

تضيف أحمد أن التحديات السياسية في بعض الدول تجعل من الصعب بناء هذا التضامن، ولكن “من خلال تبني قضايا مشتركة مثل مكافحة العنف المبني على النوع الاجتماعي، يمكن للنسويات في مختلف الدول العربية أن يوحدن جهودهن، خصوصًا في ظل زيادة التضييق على النشاط المدني.”

تحديات التضامن النسوي العابر للحدود

رغم وجود نماذج ناجحة للتضامن النسوي العابر للحدود، إلا أن هناك العديد من التحديات التي تواجه بناء حركة نسوية إقليمية قوية. من بين هذه التحديات:

التنوع الثقافي والاجتماعي: تختلف ظروف النساء في العالم العربي بشكل كبير بناءً على السياقات الثقافية والدينية والاجتماعية. ما تواجهه النساء في دول مثل السعودية والإمارات يختلف عن التحديات التي تواجهها النساء في المغرب أو تونس. هذا التنوع يخلق صعوبة في إيجاد استراتيجيات مشتركة تلبي احتياجات جميع النساء.

التحديات السياسية: الحكومات في العديد من الدول العربية لا تزال تمارس الرقابة والتضييق على النشاط النسوي، مما يجعل من الصعب تأسيس حركة نسوية إقليمية تعمل بحرية عبر الحدود. في بعض الحالات، يتم تقييد المنظمات النسوية أو مواجهتها بتهم تتعلق بمناهضة الدولة أو تهديد النظام الاجتماعي.

العوائق الاقتصادية: التمويل يشكل تحديًا كبيرًا أمام الحركات النسوية في المنطقة. في حين تتلقى بعض المنظمات دعمًا ماليًا من جهات دولية، إلا أن هذا الدعم قد يكون مشروطًا أو محدودًا. هذا يعني أن بعض الحركات النسوية تفتقر إلى الموارد الضرورية لتعزيز التضامن الإقليمي.

التأثيرات الدينية والمحافظة: تتداخل القيم الدينية المحافظة مع العديد من الحركات النسوية في العالم العربي. في بعض الدول، تواجه الحركات النسوية مقاومة اجتماعية بسبب القيم الدينية أو التقاليد التي تدعم أدوارًا تقليدية للنساء. هذه المقاومة تعيق تحقيق تقدم ملموس في بناء التضامن النسوي العابر للحدود.

من وجهة نظر سامية الكيلاني، الباحثة في الحركات النسوية العربية، فإن هذه الحركات بحاجة إلى تبني نموذجًا مرنًا من التضامن الذي يمكنه الاستجابة للتحديات المتنوعة التي تواجهها النساء في مختلف الدول العربية. “التضامن العابر للحدود لا يعني إلغاء الاختلافات الثقافية أو السياسية، بل بالعكس، يجب أن يُحتفى بهذه الاختلافات بوصفها مصدر قوة وليس عائقًا.” الكيلاني ترى أن النساء في الدول العربية غالبًا ما يتعرضن لتحديات محلية ترتبط بالتقاليد والموروثات الثقافية التي تختلف من بلد إلى آخر، لكن هذا لا يعني أن هناك تناقضًا في إمكانيات التضامن. “المهم هو أن نفهم أن لكل بلد سياق خاص به، ولكن يمكننا دائمًا أن نجد قواسم مشتركة تجمعنا، مثل مواجهة الأبوية المؤسسية التي تقيّد النساء في جميع الدول.”

تؤكد الكيلاني على أهمية استخدام المنصات الرقمية كوسيلة لتعزيز هذا التضامن، مشيرة إلى أن “المنصات الرقمية أصبحت الوسيلة الأكثر فعالية للتواصل بين النسويات في العالم العربي، حيث يمكنهن مشاركة تجاربهن وتقديم الدعم المتبادل في الوقت الحقيقي.” بالإضافة إلى ذلك، ترى الكيلاني أن هذه المنصات تتيح للنساء القدرة على تجاوز الحواجز السياسية التي تفرضها بعض الأنظمة. “في العديد من الدول، نجد أن النشاط النسوي يتم قمعه من قبل السلطات، لكن الإنترنت يوفر فضاءً يمكن للنساء فيه التنسيق والتخطيط بعيدًا عن القيود الحكومية.”

وتختم الكيلاني بقولها: “إذا أردنا بناء حركة نسوية إقليمية قوية في العالم العربي، فإن علينا أن نكون مستعدين للتكيف مع السياقات المتنوعة وأن نستخدم أدوات جديدة للتواصل والتضامن، مثل التعليم الرقمي والمؤتمرات الإلكترونية.”

الفرص والآليات

على الرغم من هذه التحديات، توجد العديد من الفرص التي يمكن للحركات النسوية الإقليمية استغلالها لتعزيز التضامن. من بين هذه الفرص:

المنصات الرقمية: تتيح وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية للنساء والمنظمات النسوية التواصل والتعاون عبر الحدود بسهولة أكبر من أي وقت مضى. يمكن للنساء في مختلف الدول العربية مشاركة تجاربهن وقضاياهن وتبادل الأفكار حول الحلول الممكنة. هذا التواصل يتيح لهن بناء شبكات تضامن قوية حتى في ظل غياب الدعم المادي أو المؤسساتي.

التعاون مع المنظمات الدولية: يمكن للحركات النسوية العربية تعزيز تعاونها مع المنظمات الدولية التي تدعم حقوق المرأة. هذه المنظمات يمكن أن توفر التمويل والدعم التقني للمشروعات التي تهدف إلى تعزيز حقوق المرأة في المنطقة، وتسهيل التعاون الإقليمي بين الحركات النسوية.

التعليم والتدريب: يمكن للمنظمات النسوية الاستفادة من البرامج التعليمية التي تعزز الوعي بحقوق المرأة وتدعم قيادات نسائية جديدة. هذه البرامج يمكن أن تسهم في تعزيز بناء حركة نسوية شاملة وقوية تعتمد على المعرفة والتثقيف.

المؤتمرات الإقليمية والدولية: يمكن تعزيز التضامن النسوي من خلال المؤتمرات الإقليمية والدولية التي تجمع بين الناشطات النسويات من مختلف الدول. هذه المؤتمرات تتيح للنساء فرصة لمناقشة التحديات المشتركة وتبادل الخبرات حول كيفية التصدي لها.

التضامن النسوي العابر للحدود ليس مجرد مفهوم نظري، بل هو ضرورة ملحة لتحقيق العدالة والمساواة للنساء في العالم العربي. الحركات النسوية في المنطقة تواجه تحديات كبيرة، لكنها في الوقت ذاته تملك فرصًا لتعزيز التضامن وبناء حركات إقليمية قوية. عبر تبني استراتيجيات مشتركة، وتطوير أدوات جديدة للتواصل، يمكن للنساء في العالم العربي بناء مستقبل مشترك أكثر عدالة، حيث تتحقق حقوق المرأة بعيدًا عن التمييز والتهميش.

Related Post