الخميس. أكتوبر 17th, 2024

التقسيم البريطاني لفلسطين.. كيف أسهمت خرائط الانتداب في تفتيت الأرض الفلسطينية؟

عندما انتهت الحرب العالمية الأولى وهُزمت الإمبراطورية العثمانية، تولت بريطانيا العظمى الانتداب على فلسطين بموجب قرارات عصبة الأمم عام 1920. وكان الانتداب البريطاني في فلسطين أحد أبرز المراحل التاريخية التي أسهمت في تفتيت الأرض الفلسطينية، وهي عملية تراكمت عبر سنوات طويلة من التخطيط الاستعماري والمفاوضات الدولية. من خلال الخرائط والتقسيمات الإدارية، شكلت بريطانيا الأساس الجغرافي والسياسي للصراع الذي سيستمر لعقود في فلسطين.

بموجب اتفاقية سايكس بيكو لعام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، تم تقسيم الشرق الأوسط إلى مناطق نفوذ. وقبل الانتداب البريطاني رسميًا، تعهدت بريطانيا في وعد بلفور لعام 1917 بإنشاء “وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين. ومع تولي بريطانيا الانتداب في 1920، بدأت بتنفيذ هذه السياسة التي شكلت حجر الزاوية في الخطط المستقبلية لتقسيم الأرض الفلسطينية.

كانت الخرائط التي وضعتها بريطانيا خلال الانتداب، سواء لأغراض إدارية أو سياسية، أدوات فعالة استخدمتها بريطانيا لتحقيق أهدافها. فعلى مدار الثلاثينيات والأربعينيات، أصدرت بريطانيا سلسلة من الخطط والقرارات التي أسهمت في تعقيد الوضع السياسي والجغرافي لفلسطين.

خرائط التقسيم ودورها في تفتيت الأرض

خطة تقسيم فلسطين لعام 1937 (لجنة بيل)

أحد أبرز الخطط التي اقترحتها بريطانيا لتقسيم فلسطين كانت في عام 1937 من خلال لجنة بيل. بعد اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939)، تشكلت اللجنة للتحقيق في أسباب التوترات. خلصت اللجنة إلى أنه لا يمكن التوصل إلى حل للصراع القائم بين العرب واليهود إلا من خلال تقسيم فلسطين.

أوصت اللجنة بتقسيم فلسطين إلى دولتين: واحدة يهودية وأخرى عربية، مع الحفاظ على منطقة صغيرة تحت السيطرة البريطانية تشمل القدس وبيت لحم. رغم أن العرب رفضوا الخطة بشكل قاطع، إلا أنها وضعت الأساس لفكرة التقسيم التي ستعود إلى الواجهة مرة أخرى بعد عقد من الزمن.

قرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947

أصدرت الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 قرار التقسيم رقم 181، الذي اقترح تقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة يهودية ودولة عربية، مع وضع القدس تحت إدارة دولية خاصة. هذه الخطة كانت تعتمد بشكل كبير على التقسيمات التي رسمتها الخرائط البريطانية، حيث أسهمت بريطانيا في تعيين الحدود عبر السنوات السابقة.

وفقًا للقرار، كانت المساحة المخصصة للدولة اليهودية حوالي 56% من أرض فلسطين، رغم أن اليهود كانوا يمثلون حوالي ثلث السكان فقط، في حين خصصت الدولة العربية بنسبة 43%، مع بقاء 1% للقدس تحت الإدارة الدولية. هذا التقسيم كان مجحفًا للعرب الذين رفضوه، لأنه كان يمنح الأغلبية اليهودية جزءًا كبيرًا من الأرض رغم قلة عددهم مقارنة بالعرب.

التأثيرات السياسية والجغرافية لتقسيم فلسطين

تلك الخرائط والتقسيمات لم تكن مجرد مقترحات نظرية؛ بل كان لها تأثير عميق على المشهد الجيوسياسي في المنطقة. يمكن تلخيص هذه التأثيرات فيما يلي:

  1. تعزيز الهجرة اليهودية

بريطانيا، من خلال سياساتها، أسهمت في تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، مما ساهم في تغيير التركيبة السكانية. تأسيس “وكالة يهودية” بموجب الانتداب لعب دورًا رئيسيًا في تسهيل هذه الهجرة وتوطين اليهود في مناطق معينة استنادًا إلى الخرائط الإدارية التي تم تقسيمها بعناية.

  1. تضييق الخناق على العرب الفلسطينيين

الخرائط البريطانية كانت وسيلة فعالة لتحديد مناطق استيطانية يهودية، وأخرى للعرب الفلسطينيين. في الكثير من الأحيان، كانت تُمنح أفضل الأراضي لليهود بينما تترك المناطق الأكثر صعوبة للعرب. أدى هذا إلى تضييق الخناق على الفلسطينيين وتحديد حركتهم الجغرافية، مما جعلهم أكثر هشاشة على المستوى الاقتصادي والسياسي.

  1. تقسيم الأرض الثقافي والديني

خرائط التقسيم لم تأخذ في الاعتبار الانتماءات الدينية والثقافية للشعب الفلسطيني. في بعض الحالات، كانت القرى والمدن العربية تُقسم إلى مناطق مختلفة، مما أدى إلى انقطاع الأواصر الاجتماعية والثقافية بين الفلسطينيين.

  1. تهيئة الأرض للصراع المستمر

الخرائط البريطانية والتقسيمات التي تلتها لم تحل المشكلة الفلسطينية، بل زادت من تعقيدها. الانقسامات التي أنشأتها الخرائط أعطت اليهود قوة جغرافية مكنتهم من بناء دولة إسرائيل على حساب الأرض الفلسطينية. في المقابل، كان الفلسطينيون محاصرين بين مناطق مقسمة ومنقطعة، مما أسهم في تفاقم الصراع الذي لا يزال مستمرًا حتى اليوم.

الخرائط التي وضعتها بريطانيا خلال سنوات الانتداب كانت حاسمة في تمكين المشروع الصهيوني. بفضل هذه الخرائط، تمكنت الحركة الصهيونية من تحديد الأراضي المناسبة للاستيطان والتخطيط لبناء دولة إسرائيل. هذه الخرائط لم تكن فقط لتحديد الحدود الجغرافية، بل لعبت دورًا كبيرًا في الهندسة الديموغرافية لفلسطين، حيث ركزت بريطانيا على تعزيز وجود اليهود في مناطق معينة، مما جعل من السهل فيما بعد إعلان قيام دولة إسرائيل.

التقسيم البريطاني لفلسطين من خلال الخرائط وخطط الانتداب أسهم بشكل كبير في تفتيت الأرض الفلسطينية وإضعاف موقف العرب في مواجهة المشروع الصهيوني. هذه الخرائط، رغم أنها بدأت كخطط استعمارية، أصبحت حجر الأساس لتقسيم فلسطين وإقامة دولة إسرائيل. اليوم، عندما ننظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا يمكننا تجاهل الدور الذي لعبته الخرائط البريطانية في تشكيل هذا الواقع.

Related Post