الخميس. أكتوبر 17th, 2024

تذبذب التضخم بعد كورونا.. هل يمكن للبنوك المركزية تحقيق هبوط اقتصادي ناعم؟

قد يكون التذبذب السريع في معدلات التضخم دون تأثيرات مماثلة على الناتج الاقتصادي سمة بارزة لعالم ما بعد جائحة كوفيد-19، حيث تسعى سلاسل الإمداد الهشة لتلبية احتياجات الأسواق، ما قد يستدعي اعتماد سياسات مصرفية مركزية أكثر قوة ونشاطاً، وربما في كلا الاتجاهين.

لقد جاءت سرعة الارتفاع العالمي في معدلات التضخم بعد صدمتي جائحة كوفيد-19 وغزو أوكرانيا متساوية تقريباً مع الانخفاض الذي تلا ذلك. نتيجة لذلك، تسعى المصارف المركزية حالياً بسرعة إلى عكس سياسة رفع أسعار الفائدة الحادة التي اتبعتها لاحتواء الأسعار خلال عامي 2022 و2023، وفق «رويترز».

بعد مرور جائحة كوفيد-19 وما تبعها من اضطرابات عالمية، شهد الاقتصاد العالمي تحولات غير مسبوقة في معدلات التضخم، التي ارتفعت بشكل حاد ثم تراجعت بسرعة. هذه التقلبات السريعة دفعت العديد من البنوك المركزية إلى إعادة النظر في استراتيجياتها للتعامل مع التضخم، ما أثار تساؤلات حول كيفية تحقيق استقرار اقتصادي دون التضحية بالنمو. ومن خلال هذا التحليل، نلقي نظرة معمقة على العلاقة بين التضخم، السياسات النقدية، وسلاسل الإمداد الهشة، مستعرضين كيف يمكن للاقتصادات العالمية أن تتفادى انكماشًا كبيرًا مع تحقيق “هبوط ناعم.”

خلال عامي 2022 و2023، تعاملت البنوك المركزية مع ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم، كان مدفوعًا بجائحة كوفيد-19 وما تبعها من اضطرابات في سلاسل الإمداد. كما لعبت الحرب في أوكرانيا دورًا كبيرًا في تفاقم هذا الوضع، خصوصًا بعد الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة. سلاسل الإمداد الهشة شكلت عبئًا إضافيًا على الاقتصاد العالمي، حيث أدت النقص في المواد الخام والسلع إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات.

ولكن بعد هذه الصدمات، بدأت معدلات التضخم في الانخفاض السريع، مما دفع البنوك المركزية إلى إعادة تقييم سياساتها النقدية والبدء في خفض أسعار الفائدة. إلا أن هذا التذبذب السريع أثار تساؤلات حول قدرة الاقتصادات على التكيف مع مثل هذه التقلبات الكبيرة في معدلات التضخم، وحول ما إذا كانت الاقتصادات قادرة على تحقيق “هبوط ناعم” دون التأثير على الناتج الإجمالي.

دور السياسات النقدية في مواجهة التضخم

البنوك المركزية، وخاصة في منطقة اليورو، كانت مضطرة إلى تبني سياسات نقدية أكثر قوة للتعامل مع الارتفاع الكبير في التضخم. “المصرف المركزي الأوروبي” على سبيل المثال اتبع سياسات رفع حادة في أسعار الفائدة في محاولة لاحتواء التضخم الذي خرج عن السيطرة.

ولكن مع انخفاض التضخم بشكل مفاجئ، أصبح السؤال المطروح هو كيفية إدارة هذه التحولات دون التأثير سلبًا على الناتج الاقتصادي. وهنا تبرز أهمية ما يُعرف بـ “منحنى فيليبس”، الذي يربط بين معدلات البطالة ومستويات التضخم. وفقًا لهذه النظرية، يمكن لأي تغيير طفيف في الناتج أن يؤدي إلى تحركات كبيرة في الأسعار، وهو ما رأيناه بشكل واضح بعد نقص العمالة وزيادة الأجور بعد الجائحة.

من أبرز التحديات التي تواجه البنوك المركزية هو تعاملها مع صدمات العرض، مثل أزمة الطاقة الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، التي كان لها تأثير كبير وسريع على الأسعار. أندريا ميتشل، نائبة المدير العام لبنك التسويات الدولية، أكدت في خطاب ألقته أن المصارف المركزية لم يعد بإمكانها تجاهل هذه الصدمات العرضية على أنها عوامل تضخم مؤقتة كما كانت تفعل قبل الجائحة. وأشارت إلى أن التوترات الجيوسياسية والتغيرات المناخية قد تؤدي إلى استمرار الصدمات العرضية، مما يستدعي سياسات نقدية أكثر حذرًا وقوة.

من الواضح أن البنوك المركزية ستضطر إلى توخي الحذر في المستقبل، حيث أن الاعتماد على سياسات رفع الفائدة الحادة قد لا يكون هو الحل الأمثل. على سبيل المثال، قد تؤدي العودة السريعة إلى خفض أسعار الفائدة إلى نتائج عكسية، خاصة إذا كانت هذه التحركات غير محسوبة بعناية.

ماريو سينتينو، أحد صانعي السياسات في المركزي الأوروبي، أشار إلى أن خفض أسعار الفائدة قد يكون ضروريًا لتجنب تراجع كبير في النمو الاقتصادي. كما أن هناك مخاوف من أن يؤدي انخفاض التضخم بشكل مفاجئ إلى تهديد الاستقرار السعري على المدى الطويل، مما يتطلب اتخاذ سياسات أكثر قوة لمعالجة هذا الانخفاض.

السيناريوهات المحتملة

هبوط ناعم: إذا تمكنت البنوك المركزية من إدارة التضخم بطريقة ذكية ومتوازنة، فقد نرى تحقيق ما يُعرف بالهبوط الناعم، حيث يتم خفض التضخم دون التأثير الكبير على الناتج الاقتصادي. هذا السيناريو قد يعزز الثقة في استراتيجيات البنوك المركزية وقدرتها على تحقيق استقرار مالي طويل الأمد.

التقلبات المستمرة: على الجانب الآخر، قد يستمر التضخم في التذبذب، مما يضع ضغوطًا كبيرة على البنوك المركزية لاتخاذ قرارات أكثر حذرًا. في هذا السيناريو، قد نرى استمرارًا لسياسات رفع الفائدة ثم خفضها بشكل سريع، مما يؤدي إلى بيئة اقتصادية غير مستقرة.

الركود الاقتصادي: السيناريو الأسوأ هو أن يؤدي رفع أسعار الفائدة بشكل كبير إلى حدوث ركود اقتصادي، حيث تتأثر الأسواق والشركات بشكل سلبي من هذه التحركات. ورغم أن البنوك المركزية قد تتمكن من السيطرة على التضخم، إلا أن ذلك قد يكون على حساب النمو الاقتصادي.

التذبذب السريع في معدلات التضخم بعد جائحة كوفيد-19 يمثل تحديًا كبيرًا للبنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم. ومع استمرار التوترات الجيوسياسية وتأثيرات العولمة، يبدو أن البنوك المركزية ستضطر إلى اتباع سياسات نقدية أكثر مرونة وقوة للتعامل مع هذه التغيرات. ومن خلال التوازن بين استقرار الأسعار والحفاظ على النمو الاقتصادي، يمكن أن تتحقق الاستفادة القصوى من السياسات النقدية في المرحلة المقبلة، ولكن التحدي الأكبر هو تجنب الوقوع في الفخاخ الاقتصادية التي قد تؤدي إلى ركود طويل الأمد.

Related Post