أيرلندا الشمالية شهدت صراعاً دامياً ومعقداً دام لعقود طويلة، امتد من الستينات وحتى أواخر التسعينات. يُعرف هذا الصراع باسم “الاضطرابات” (The Troubles)، وقد تركز حول قضايا الهوية الوطنية والسيادة، وكان دافعه الأساسي هو الانقسام بين طائفتين رئيسيتين: البروتستانت، الذين يرغبون في بقاء أيرلندا الشمالية جزءاً من المملكة المتحدة، والكاثوليك الذين يدعمون فكرة الانضمام إلى جمهورية أيرلندا.
يرجع جذور الصراع إلى التاريخ الطويل للسيطرة الإنجليزية على أيرلندا، التي بدأت منذ العصور الوسطى واستمرت حتى استقلال جمهورية أيرلندا في عام 1921. في تلك الفترة، تم تقسيم أيرلندا إلى شمال وجنوب؛ حيث حصل الجنوب ذو الغالبية الكاثوليكية على استقلاله، بينما ظلت أيرلندا الشمالية، ذات الأغلبية البروتستانتية، جزءًا من المملكة المتحدة. لكن داخل أيرلندا الشمالية، كان هناك أيضًا مجتمع كاثوليكي كبير، يشعر بالتمييز الديني والسياسي والاجتماعي.
بدأت شرارة “الاضطرابات” في أواخر الستينات عندما طالب الكاثوليك في أيرلندا الشمالية بالحقوق المدنية ومعاملة عادلة، مماثلة لتلك التي يتمتع بها البروتستانت. تصاعد التوتر بين المجموعتين مع تزايد القمع من قوات الأمن والاشتباكات العنيفة بين المتظاهرين والقوات الحكومية.
سنوات العنف (1969-1998)
شهدت أيرلندا الشمالية من نهاية الستينات وحتى التسعينات فترة من العنف المكثف، حيث اشتبكت مجموعات مسلحة مثل الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA)، الذي قاتل من أجل توحيد أيرلندا، مع مجموعات مسلحة بروتستانتية مثل جمعية الدفاع المدني أولستر (UDA)، التي دافعت عن بقاء أيرلندا الشمالية في المملكة المتحدة.
تأثرت حياة المدنيين بشدة خلال هذه الفترة، حيث كانت الهجمات الإرهابية والاغتيالات والتفجيرات جزءاً من الحياة اليومية. القوات البريطانية، التي تم إرسالها إلى أيرلندا الشمالية للحفاظ على النظام، لم تتمكن من إنهاء الصراع وأصبحت جزءاً من المشكلة، حيث اتهمت باستخدام القوة المفرطة والتواطؤ في بعض أعمال العنف.
إحدى أبرز اللحظات المأساوية خلال هذه الفترة كانت مذبحة الأحد الدامي في عام 1972، عندما فتحت القوات البريطانية النار على متظاهرين كاثوليك في مدينة ديري، مما أسفر عن مقتل 13 شخصاً. كان لهذا الحدث دورٌ كبير في تأجيج العنف وزيادة الكراهية بين الطائفتين.
مع تصاعد العنف وغياب الحلول السلمية، بدأت جهود وساطات دولية بقيادة بريطانيا وجمهورية أيرلندا للتوصل إلى تسوية سلمية. اتفاق الجمعة العظيمة أو اتفاق بلفاست، الذي تم توقيعه في عام 1998، كان نقطة تحول هامة في هذا الصراع الطويل.
الاتفاق تضمن عدة جوانب رئيسية:
تقاسم السلطة بين المجموعتين الطائفيتين في حكومة أيرلندا الشمالية.
إنشاء برلمان محلي يتيح لكلا الطرفين المشاركة في اتخاذ القرارات.
الإفراج عن المعتقلين السياسيين المرتبطين بالصراع.
نزع السلاح عن الجماعات المسلحة.
الاتفاق مثّل خطوة كبيرة نحو السلام والاستقرار، لكنه لم ينهِ بالكامل التوترات الطائفية، التي لا تزال قائمة حتى اليوم في أيرلندا الشمالية. وعلى الرغم من التحسن الكبير في الأوضاع الأمنية والسياسية، لا يزال هناك تحديات تتعلق بالهوية والتاريخ والانقسام الطائفي في بعض المناطق.
بعد مرور أكثر من عقدين على اتفاق الجمعة العظيمة، أصبحت أيرلندا الشمالية أكثر استقراراً وأماناً. لكن في نفس الوقت، تبقى الجروح الاجتماعية والطائفية عميقة، كما أن المخاوف من عودة العنف تظهر بين الحين والآخر، خاصة مع تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي أثار تساؤلات حول الحدود بين أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا.
إضافة إلى ذلك، العملية السياسية في أيرلندا الشمالية لا تزال تتأثر بالصراع القديم، حيث تعاني من الجمود السياسي والتوترات الطائفية التي تظهر في الانتخابات والتحالفات السياسية. ومع ذلك، يعتبر اتفاق الجمعة العظيمة نموذجًا ناجحًا للتحول من الحرب الأهلية إلى السلام، ويُستخدم كمثال في مناطق أخرى من العالم التي تشهد صراعات مشابهة.
قصة الصراع في أيرلندا الشمالية تمثل درسًا عالميًا حول تعقيد الصراعات الطائفية والسياسية وكيفية التوصل إلى تسويات سلمية. على الرغم من أن اتفاق الجمعة العظيمة لم يمحُ جميع آثار الصراع، إلا أنه قدّم نموذجًا لإمكانية تحقيق السلام والتعايش من خلال الحوار والوساطة.