مدينة الموصل، التي كانت تاريخيًا مركزًا اقتصاديًا وثقافيًا في شمال العراق، شهدت عام 1959 واحدة من أعنف الصراعات على السلطة في تاريخها الحديث. هذا الصراع لم يكن مجرد نزاع محلي، بل كان انعكاسًا للتوترات الإقليمية والعالمية التي تزامنت مع تصاعد الحرب الباردة وتأثيرات التيارات السياسية المتنافسة: الشيوعية المدعومة من الاتحاد السوفيتي والقومية العربية التي تجسدها حركة البعث وحلفاؤها.
في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت الموصل مدينة متعددة الإثنيات والثقافات، حيث عاشت فيها مجتمعات عربية، كردية، تركمانية، وآشورية. وكانت المدينة تعيش حالة من الانقسام السياسي بين النخب الاقتصادية التقليدية التي كانت تميل إلى القومية العربية، وبين الطبقة العاملة والفلاحين الذين أبدوا تعاطفًا متزايدًا مع الحزب الشيوعي.
في هذه الأجواء، كانت ثورة 14 تموز 1958 بقيادة عبد الكريم قاسم حدثًا حاسمًا في تاريخ العراق الحديث، إذ أطاحت بالنظام الملكي المدعوم من بريطانيا وأعلنت قيام الجمهورية العراقية. كانت الثورة في بدايتها تجمع بين عناصر متعددة تشمل الشيوعيين والقوميين على حد سواء، لكن سرعان ما بدأت التحالفات تتفكك وبرزت صراعات نفوذ بين التيارات السياسية المختلفة.
تصاعد التوترات بين الشيوعيين والقوميين
في الموصل، كانت التيارات القومية تحظى بشعبية بين الطبقات الوسطى والتجار، بينما كان الحزب الشيوعي يجتذب الطبقات العمالية والفلاحين. وكان هذا التنافس مرآة لما يحدث في بغداد، حيث سعى الشيوعيون إلى تعزيز مواقعهم من خلال دعمهم المطلق لحكومة عبد الكريم قاسم، بينما اتجه القوميون للمعارضة، مدفوعين برغبتهم في الانضمام إلى الوحدة العربية مع مصر وسوريا.
في مطلع عام 1959، أصبحت الموصل ساحة رئيسية لهذا الصراع بين قوات الشيوعيين والقوميين، حيث انتشرت الحركات السياسية بين السكان، مما خلق توترًا متصاعدًا انتهى بانفجار الأوضاع في مارس.
بدأت المواجهات عندما قام الضابط عبد الوهاب الشواف، وهو من أبرز القوميين في الجيش العراقي، بمحاولة انقلاب ضد حكومة قاسم. اعتبر الشواف أن الشيوعيين قد باتوا يسيطرون على الوضع السياسي والاقتصادي في العراق. لكن سرعان ما تدخلت القوات الحكومية الموالية لقاسم، مدعومة بتأييد من الحزب الشيوعي في المدينة، لقمع الانقلاب.
التمرد الشيوعي في الموصل كان قاسيًا. بعد فشل انقلاب الشواف، بدأ الشيوعيون بالانتقام من القوميين والمتعاطفين معهم، مما أدى إلى عمليات قتل جماعي وتصفية جسدية لكبار زعماء القوميين وعائلاتهم. تخلل هذه الأحداث انفلات أمني، حيث شهدت المدينة مشاهد عنف وصفت بأنها مروعة، وحُطمت عائلات بالكامل بسبب الصراع الأيديولوجي.
التأثيرات الإقليمية والعالمية
كانت أحداث الموصل جزءًا من الصراع الأكبر بين الكتلة الغربية المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها وبين الكتلة الشرقية المدعومة من الاتحاد السوفيتي. بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، كان الصراع في الموصل تهديدًا لسياسة احتواء المد الشيوعي في الشرق الأوسط. بينما كان الاتحاد السوفيتي ينظر إلى نجاح الشيوعيين في العراق على أنه انتصار آخر في إطار الحرب الباردة.
على الصعيد الإقليمي، كانت مصر بقيادة جمال عبد الناصر تدعم التيارات القومية في العراق، وتأمل في أن تتمكن هذه التيارات من تحقيق وحدة عربية تشمل العراق، مصر، وسوريا. إلا أن الصراع الداخلي بين الشيوعيين والقوميين في العراق كان يعطل هذه الطموحات.
على الرغم من أن عبد الكريم قاسم تمكّن من الحفاظ على السيطرة على العراق بعد فشل انقلاب الشواف، إلا أن الصراع في الموصل أدى إلى تعميق الانقسامات السياسية في البلاد. استمر العنف السياسي والتوترات الأيديولوجية بين الشيوعيين والقوميين، مما أدى في النهاية إلى انقلاب البعث عام 1963 الذي أطاح بقاسم وشهد حملة قمعية شرسة ضد الشيوعيين.
كما تركت الأحداث ندوبًا عميقة في نسيج المجتمع الموصلي. المدينة التي كانت قد شهدت لعقود تعايشًا سلميًا بين مختلف الفئات الإثنية والطائفية تحولت إلى ساحة للانتقام السياسي والتصفية الأيديولوجية.
كان صراع الموصل عام 1959 نقطة تحول في تاريخ العراق الحديث، حيث عكس بوضوح الاستقطاب السياسي الذي كان يتنامى في البلاد منذ الإطاحة بالنظام الملكي. الصراع بين الشيوعيين والقوميين لم يكن مجرد نزاع محلي، بل كان جزءًا من التحولات الجيوسياسية الكبرى التي كانت تشهدها المنطقة في إطار الحرب الباردة.
اليوم، لا تزال آثار هذا الصراع حاضرة في الذاكرة الجماعية للعراقيين، وخاصة في الموصل التي شهدت لاحقًا سلسلة من الأحداث العنيفة والصراعات الدموية التي زادت من تعقيد تاريخها السياسي والاجتماعي.