يشكل التلوث الهوائي في المدن الكبرى تحديًا مستمرًا يُلقي بظلاله الثقيلة على الصحة العامة والنظم البيئية، حيث ترتبط زيادة مستويات التلوث بارتفاع معدلات الأمراض المزمنة والوفيات المبكرة. تعاني مدن مثل القاهرة، الرياض، وبغداد من تفاقم هذه الأزمة نتيجة النمو السكاني السريع، التوسع العمراني العشوائي، والاعتماد المفرط على وسائل النقل التي تعتمد على الوقود الأحفوري. في هذا التقرير، سنقدم دراسة متعمقة عن تأثير التلوث الهوائي على الصحة العامة في هذه المدن، مستعرضين الإحصائيات المتعلقة بالأمراض الناتجة عن هذه الظاهرة، والحلول الممكنة لتقليل التلوث وتحقيق بيئة حضرية صحية.
تأثير التلوث الهوائي على الصحة العامة في المدن العربية الكبرى
تُعتبر القاهرة من بين أكثر المدن تلوثًا في العالم، إذ تساهم الكثافة السكانية وحركة المرور الكثيفة في رفع مستويات ثاني أكسيد النيتروجين (NO₂) والجسيمات الدقيقة (PM2.5)، وهي ملوثات ترتبط مباشرة بأمراض الجهاز التنفسي والقلب.
تشير بيانات منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أن التعرض لتلوث الهواء في القاهرة يؤدي إلى ما يقارب 10,000 حالة وفاة سنويًا مرتبطة بأمراض القلب والسكتة الدماغية. ويعاني السكان من انتشار الربو المزمن، خاصة بين الأطفال، مع ارتفاع في حالات الانسداد الرئوي المزمن (COPD) والالتهابات التنفسية.
أما الرياض تواجه تحديات مزدوجة من التلوث الهوائي؛ أحدها العواصف الرملية التي تزيد من تركيز الجسيمات العالقة (PM10)، والآخر الانبعاثات الصناعية من قطاع النفط والغاز.
في عام 2022، أظهرت الدراسات أن تلوث الهواء في الرياض مسؤول عن 15% من حالات الإصابة بالأمراض التنفسية المزمنة، بما في ذلك الربو والتهاب الشعب الهوائية.
سكان الرياض يتعرضون أيضًا لارتفاع معدل التهابات العيون وحالات ضيق التنفس، خاصة خلال فصول العواصف الرملية، مما يفرض عبئًا إضافيًا على قطاع الصحة.
بينما تعاني بغداد من تدهور بيئي ناجم عن الحروب السابقة، بالإضافة إلى النمو العشوائي للصناعات والنفايات غير المعالجة. يُعزز هذا التلوث من انتشار الأمراض التنفسية.
أظهرت بيانات وزارة الصحة العراقية أن 30% من الحالات المسجلة في المستشفيات خلال فصل الصيف مرتبطة بأمراض ناتجة عن تلوث الهواء، بما في ذلك أمراض القلب والسرطان.
ويعاني سكان بغداد من ارتفاع ملحوظ في حالات الأمراض السرطانية بسبب التعرض للملوثات الكيميائية في الهواء والمياه.
سياسات وحلول لتخفيف التلوث الهوائي
تساعد الحدائق العامة والغابات الحضرية في تحسين جودة الهواء عبر امتصاص ثاني أكسيد الكربون وتنقية الهواء من الجسيمات الضارة.
نفذت القاهرة مشروعًا لزيادة المساحات الخضراء في الأحياء المزدحمة لتحسين جودة الهواء وتقليل درجات الحرارة.
تشجيع استخدام وسائل النقل الصديقة للبيئة، مثل الدراجات، السيارات الكهربائية، ووسائل النقل العام، يساعد في خفض الانبعاثات الضارة.
تحتاج المصانع ومحطات الطاقة إلى أنظمة رقابة صارمة تحد من الانبعاثات الضارة. يُمكن تبني أنظمة تصفية متقدمة والاعتماد على الطاقة النظيفة بدلاً من الوقود الأحفوري.
حيث تسعى الحكومة العراقية إلى تطوير تشريعات بيئية تفرض على المصانع تقليل الانبعاثات السامة وتحديث تقنياتها.
زيادة الوعي بين السكان بمخاطر التلوث الهوائي وأهمية تبني سلوكيات صديقة للبيئة، مثل تقليل استهلاك الوقود والتحول إلى الطاقة المتجددة.
وقد نظمت القاهرة حملات توعية بين الشباب والمدارس حول أهمية الحفاظ على البيئة وتجنب التلوث.
تحتاج مشاريع تحسين جودة الهواء إلى استثمارات ضخمة، وهو تحدٍ تواجهه العديد من المدن التي تعاني من أزمات اقتصادية، مثل بغداد.
قد تواجه سياسات الحد من التلوث معارضة من الشركات الصناعية وشركات النفط التي تعتمد على أنشطة ملوثة.
في بعض الحالات، يغيب الوعي حول أهمية الحفاظ على البيئة، مما يؤدي إلى ضعف الالتزام بالسلوكيات الصديقة للبيئة.
تواجه المدن الكبرى في العالم العربي تحديًا مشتركًا يتمثل في التلوث الهوائي، الذي لا يهدد البيئة فحسب، بل يضع صحة السكان واقتصادات الدول تحت ضغوط شديدة. على الرغم من أن الحلول المستدامة، مثل زيادة المساحات الخضراء وتحسين وسائل النقل، تقدم وعودًا بتحسين الوضع، إلا أن التنفيذ الفعلي يتطلب جهودًا جماعية، تمويلًا كافيًا، ووعيًا عامًا يعزز من الالتزام البيئي. إن التحدي الأكبر الذي تواجهه هذه المدن هو تحقيق عدالة بيئية، بحيث يتم حماية الفئات الأكثر عرضة للخطر وضمان حق الجميع في بيئة نظيفة وصحية.