مع استمرار الضربات الأمريكية-البريطانية على مواقع الحوثيين في اليمن، تتزايد الأسئلة حول أهداف هذه العمليات العسكرية، ومدى فعاليتها في وقف الهجمات على السفن في البحر الأحمر، وما إذا كانت ستؤدي إلى تصعيد إقليمي جديد. فبينما تؤكد واشنطن أن هذه العمليات ستستمر طالما استمر الحوثيون في تهديد الملاحة الدولية، يبقى التساؤل مفتوحاً حول التداعيات الاستراتيجية لهذا التصعيد، خاصة في ظل ارتباط هذه التطورات بالحرب في غزة وتوتر العلاقات الأمريكية-الإيرانية.
السبب الرئيسي الذي تسوقه واشنطن ولندن لتبرير الضربات هو حماية حرية الملاحة في البحر الأحمر، أحد أهم الممرات البحرية للتجارة العالمية. فمنذ بداية الهجمات الحوثية، اضطرت العديد من شركات الشحن الكبرى، مثل شركة “ميرسك” الدنماركية، إلى تغيير مساراتها عبر رأس الرجاء الصالح، مما زاد من تكاليف النقل البحري وأثر على الاقتصاد العالمي.
يُنظر إلى هذه العمليات العسكرية على أنها ليست فقط رداً على هجمات الحوثيين، بل أيضاً جزء من استراتيجية أمريكية-بريطانية تهدف إلى ردع إيران، التي يُتهم الحرس الثوري التابع لها بدعم وتسليح الحوثيين. فإعادة تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية من قبل الولايات المتحدة يشير إلى رغبة واشنطن في فرض عزلة دولية عليهم، وربما الضغط أكثر على طهران عبر استهداف أحد أبرز وكلائها الإقليميين.
توقيت التصعيد في اليمن لا يمكن فصله عن الحرب الإسرائيلية على غزة، إذ أعلن الحوثيون أنهم يشنون هجماتهم البحرية “دعماً لفلسطين”. وبالتالي، فإن العمليات العسكرية ضدهم قد تكون أيضاً جزءاً من دعم غير مباشر لإسرائيل في صراعها مع حركة حماس، ومحاولة للحد من اتساع رقعة المواجهة في المنطقة.
رغم قوة الهجمات الأمريكية-البريطانية، فإن تصريحات الرئيس جو بايدن نفسه تعكس عدم يقينه بجدوى هذه العمليات. عندما سُئل عن تأثير الضربات، أجاب بصراحة: “هل أنها توقف الحوثيين؟ كلا. هل ستستمر؟ نعم”. هذا الاعتراف الضمني بفشل الضربات في تحقيق هدفها المباشر يطرح تساؤلات حول مدى فعاليتها، وهل هي جزء من استراتيجية أوسع أم مجرد رد فعل تكتيكي مؤقت؟
الحوثيون ليسوا مجرد ميليشيا مسلحة بل أصبحوا قوة عسكرية منظمة تمتلك ترسانة صاروخية وطائرات مسيّرة متطورة، بفضل الدعم الإيراني المستمر. حتى بعد سنوات من القصف السعودي-الإماراتي في إطار التحالف العربي، لم يتم القضاء على قدراتهم الهجومية، وهو ما يجعل الضربات الأمريكية-البريطانية الحالية أقل قدرة على تحقيق أهدافها في المدى القصير.
تاريخ الحوثيين يُظهر قدرتهم العالية على التكيف مع الضغوط العسكرية، فقد نجحوا في الاستمرار رغم العقوبات والضغوط الدولية، بل وتمكنوا من توسيع سيطرتهم على الأراضي اليمنية. ومن المتوقع أن تزيد هذه الضربات من حافزهم لمواصلة هجماتهم البحرية، وربما الرد بأساليب غير متوقعة، مثل استهداف سفن أمريكية أو توسيع نطاق عملياتهم إلى البحر العربي أو الخليج.
الاستمرار في استهداف الحوثيين قد يدفعهم إلى تصعيد أكبر، سواء من خلال استهداف سفن غربية مباشرة أو حتى استهداف مصالح أمريكية في الخليج، مما قد يؤدي إلى تصعيد إقليمي أوسع يشمل إيران والعراق وسوريا ولبنان.
حتى الآن، تحاول إيران الحفاظ على نهج “الدعم غير المباشر” للحوثيين، لكنها قد تجد نفسها مضطرة إلى اتخاذ خطوات أكثر جرأة إذا شعرت أن حلفاءها يتعرضون لضربات تهدد نفوذها. وإذا تطور الأمر إلى رد عسكري إيراني مباشر، فقد نشهد مواجهة مفتوحة بين واشنطن وطهران.
يأتي هذا التصعيد في وقت كانت فيه الجهود الدبلوماسية مستمرة لإنهاء الحرب اليمنية عبر مبادرات برعاية الأمم المتحدة والمملكة العربية السعودية. استمرار الضربات الأمريكية-البريطانية قد يُعرقل هذه الجهود، ويدفع الحوثيين إلى التشدد في مواقفهم، مما يعقّد فرص التوصل إلى تسوية سلمية شاملة.
إعلان الدنمارك رغبتها في الانضمام إلى التحالف الأمريكي-البريطاني ضد الحوثيين قد يكون مقدمة لمشاركة أوروبية أوسع، خصوصاً أن هجمات الحوثيين تهدد الاقتصاد العالمي عبر تعطيل أحد أهم الممرات التجارية. ومع ذلك، فإن أي مشاركة أوروبية ستكون محدودة، نظراً لحساسية الأوضاع في المنطقة، ورغبة الدول الأوروبية في تجنب الانخراط المباشر في أي صراع عسكري جديد بعد الحرب الأوكرانية.
في هذا السيناريو، تستمر الضربات الأمريكية-البريطانية لكنها تفشل في تحقيق هدفها الأساسي بوقف الهجمات الحوثية، مما يؤدي إلى حالة من “الاستنزاف المتبادل”، حيث يواصل الحوثيون هجماتهم، بينما تستمر واشنطن ولندن في الرد دون تحقيق اختراق حقيقي.
إذا قررت إيران دعم الحوثيين بشكل أكثر علانية، سواء عبر تزويدهم بأسلحة أكثر تطوراً أو حتى التدخل المباشر، فقد تتوسع المواجهة إلى الخليج، مما قد يؤدي إلى أزمة عالمية في سوق النفط والطاقة.
رغم التصعيد العسكري، فإن بعض الأطراف قد تتحرك لاحتواء الأزمة، خصوصاً عبر وساطات إقليمية تقودها دول مثل سلطنة عمان أو حتى الصين، التي تربطها علاقات جيدة مع إيران ولديها مصلحة في استقرار طرق التجارة البحرية.
الضربات الأمريكية-البريطانية ضد الحوثيين تعكس تحركاً استراتيجياً لحماية خطوط الملاحة، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام تصعيد جديد قد يخرج عن نطاق السيطرة. وفي ظل عدم وجود رؤية واضحة لإنهاء هذه الأزمة، فإن استمرار الضربات قد يؤدي إلى توسيع دائرة الصراع في المنطقة، مما يجعل العام 2024 عاماً آخر من المواجهات المفتوحة في الشرق الأوسط. فهل ستنجح واشنطن ولندن في تحقيق أهدافهما، أم أن التصعيد سيؤدي إلى نتائج غير محسوبة قد تغيّر معادلات القوة في المنطقة؟ الأيام القادمة وحدها تحمل الإجابة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ