تشكّل أزمة المهاجرين غير الشرعيين بين الجزائر والنيجر اختبارًا جديدًا للعلاقات بين البلدين، حيث فجّرت عمليات الترحيل الأخيرة توتراً دبلوماسياً حاداً، دفع نيامي إلى استدعاء السفير الجزائري واحتجاجها رسمياً على ما وصفته بـ”المعاملة غير اللائقة” لمواطنيها أثناء إعادتهم إلى بلادهم.
لكن خلف هذا السجال الدبلوماسي، يبرز تساؤل جوهري: هل الأزمة الراهنة مجرد خلاف حول ملف الهجرة، أم أنها تعكس تصدعًا أوسع في العلاقات الجزائرية-النيجيرية ضمن سياق التوترات الإقليمية؟
لطالما كانت الحدود الجنوبية للجزائر مع النيجر ومالي مصدر قلق أمني وسياسي، حيث أصبحت البلاد وجهةً رئيسية للمهاجرين القادمين من دول الساحل الإفريقي. ومع إلغاء السلطات العسكرية في النيجر قانون تجريم تهريب البشر في نوفمبر 2023، حذّرت منظمات دولية من تزايد تدفق المهاجرين نحو الجزائر وليبيا، مما أضاف أعباءً إضافية على الجزائر التي كانت تتعامل أصلاً مع موجات نزوح كبيرة.
لكن ما يجعل القضية أكثر تعقيدًا هو توقيت هذا التصعيد، إذ يأتي في ظل:
توتر العلاقات بين الجزائر والنيجر عقب انقلاب يوليو/تموز 2023. رفض نيامي المبادرة الجزائرية لحل الأزمة الداخلية في النيجر. وأيضا تنامي النفوذ الروسي والفرنسي في المنطقة، مما قد يعيد ترتيب التحالفات الإقليمية.
بالتالي، قد يكون التصعيد النيجري ضد الجزائر أكثر من مجرد احتجاج على معاملة المهاجرين، وربما يعكس تغيراً في الموقف السياسي للنيجر تجاه الجزائر.
لم يكن استدعاء السفير الجزائري في النيجر خطوة دبلوماسية عادية، بل رافقها تعمد السلطات النيجيرية التقليل من مستوى التمثيل الرسمي في اللقاء، عبر تكليف مسؤول منخفض الرتبة باستقبال السفير الجزائري. هذه الخطوة تحمل إشارات واضحة على رغبة نيامي في تأزيم الموقف، وليس فقط تقديم احتجاج رسمي.
وبينما يمكن تفسير ذلك على أنه رد فعل غاضب على ظروف ترحيل المهاجرين، إلا أن تزامنه مع تغير مواقف النيجر تجاه الجزائر في ملفات أخرى، مثل رفض الوساطة الجزائرية، يطرح احتمال أن نيامي تسعى إلى إعادة تموضعها استراتيجيًا على حساب علاقتها مع الجزائر.
أبرز الدلائل على ذلك: الانفتاح النيجري على فرنسا وروسيا بعد طرد القوات الفرنسية من البلاد، في مقابل فتور العلاقات مع الجزائر. تحركات النيجر لتعزيز التعاون الأمني مع دول أخرى في المنطقة، مع تجاهل الجزائر. التصعيد الإعلامي ضد الجزائر عبر وسائل الإعلام النيجرية، واتهامها بـ”انتهاك حقوق المهاجرين”.
كل هذه المؤشرات تشير إلى أن الأزمة الحالية ليست مجرد خلاف تقني حول ملف الهجرة، بل جزء من تحول أوسع في علاقات النيجر الإقليمية.
تعاملت الجزائر مع الهجرة غير الشرعية من دول الساحل لسنوات طويلة باعتبارها تحديًا أمنيًا واقتصاديًا. فالتدفق الكبير للمهاجرين يفرض ضغطًا على الاقتصاد المحلي، ويثير مخاوف أمنية متعلقة بتهريب البشر، والأسوأ من ذلك، احتمال اختراق الجماعات المسلحة للحدود عبر موجات الهجرة.
لكن الملف لم يعد متعلقًا فقط بالهجرة، بل بات جزءًا من الصراع على النفوذ في منطقة الساحل، حيث تواجه الجزائر تحديات عدة: فتصاعد الوجود الروسي في مالي والنيجر، يعيد تشكيل التوازنات الإقليمية.
كذلك عودة النفوذ الفرنسي بعد طرد قواتها من النيجر، مما قد يعيد باريس إلى المشهد عبر أدوات سياسية ودبلوماسية جديدة. كذا أيضا انقلاب المواقف السياسية في النيجر ومالي تجاه الجزائر، بعدما كانتا تقليديًا قريبتين من الرؤية الجزائرية.
ومع تنامي هذه التحديات، تصبح إدارة ملف الهجرة بالنسبة للجزائر جزءًا من معركة أكبر حول النفوذ الإقليمي.
أمام هذا التصعيد، تجد الجزائر نفسها أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
قد تلجأ الجزائر إلى امتصاص الغضب النيجري عبر تقديم ضمانات بعدم تكرار عمليات الترحيل دون تنسيق، خصوصًا أن نيامي تعيش حاليًا في عزلة دولية بعد الانقلاب، وبالتالي قد تكون بحاجة إلى الجزائر لاحقًا.
يمكن للجزائر اتخاذ إجراءات مضادة، مثل تشديد الرقابة على الحدود، أو تقليص التعاون الاقتصادي والأمني مع النيجر، لكن هذا الخيار يحمل مخاطر تعميق الفجوة بين البلدين.
تمتلك الجزائر أوراق ضغط سياسية، مثل التنسيق مع الاتحاد الإفريقي، أو الاستفادة من علاقاتها مع دول الساحل الأخرى لإبقاء نيامي تحت الضغط السياسي.
من الناحية الواقعية، الخيار الأول (التهدئة) هو الأكثر احتمالًا، لأن الجزائر لا تزال تحتاج إلى علاقات مستقرة مع دول الجوار، لكن سيكون عليها إعادة تقييم استراتيجيتها الإقليمية لمواجهة التحديات المستجدة.
لا يمكن فهم التوتر بين الجزائر والنيجر بمعزل عن التغيرات الجيوسياسية في منطقة الساحل، حيث تسعى عدة قوى دولية وإقليمية لإعادة ترتيب النفوذ هناك. ورغم أن أزمة المهاجرين تبدو في ظاهرها خلافًا إنسانيًا حول معاملة المرحلين، إلا أنها في جوهرها جزء من صراع أوسع على النفوذ والسياسات الإقليمية.
في المرحلة القادمة، ستحتاج الجزائر إلى تبني نهج أكثر توازناً يجمع بين حماية أمنها الداخلي وإعادة بناء علاقاتها مع جيرانها في الساحل، خاصة بعد التغيرات التي فرضتها الانقلابات العسكرية الأخيرة في مالي والنيجر. فالرهان ليس فقط على إدارة أزمة عابرة، بل على ضمان بقاء الجزائر لاعبًا رئيسيًا في المنطقة وسط تحولات إقليمية معقدة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ