Spread the love

في ظل المشهد السياسي الليبي المتشابك، يُلقي طرح عبد الحميد الدبيبة لمسألة الاستفتاء على الدستور بظلاله على المشهد الانتخابي المتعثر، مما يثير تساؤلات جوهرية حول الدوافع الحقيقية لهذا الطرح، وتأثيره على مسار الانتخابات، والتجاذبات بين القوى السياسية المحلية والإقليمية. فبينما يُنظر إلى الدستور كخطوة أساسية لترسيخ مؤسسات الدولة، يرى معارضو الدبيبة أن طرحه الآن ليس سوى محاولة لتعطيل الانتخابات، والإبقاء على حكومته في السلطة.

يواجه الدبيبة ضغوطاً متزايدة للإفساح المجال لحكومة جديدة، خصوصًا مع توافق مجلسي النواب والدولة على تشكيل حكومة موحدة للإشراف على الانتخابات. ويبدو أن الحديث عن الاستفتاء هو مناورة سياسية لكسب مزيد من الوقت، وتأخير الانتخابات الرئاسية التي قد تطيح به من المشهد السياسي. فكما أشار أسعد زهيو، كلما شعر الدبيبة بوجود تحركات لاستبداله، لجأ إلى الحديث عن الاستفتاء الدستوري كمدخل لتمديد المرحلة الانتقالية.

توافق مجلسي النواب والدولة على تشكيل حكومة موحدة، تحت رعاية الجامعة العربية، يهدد مباشرةً استمرار حكومة الدبيبة، حيث من المتوقع أن تكون الحكومة القادمة مؤقتة، ومهمتها الأساسية الإشراف على الانتخابات. لذلك، فإن إثارة مسألة الدستور قد تُستخدم كأداة لتعطيل هذا التوافق، ووضع عقبات أمام تسليم السلطة لحكومة انتقالية جديدة.

تحدثت تقارير عن دعم بعض القوى الغربية لاستمرار الدبيبة، كونه يُقدم نموذجًا أكثر توافقًا مع مصالح هذه القوى في المنطقة، خاصة فيما يتعلق بملفات الطاقة والهجرة. وهنا، قد يكون طرح الاستفتاء على الدستور وسيلة لاسترضاء المجتمع الدولي، وإظهار نفسه كقائد إصلاحي يدفع نحو استقرار ليبيا، بينما في الواقع، يسعى للحفاظ على وجوده في المشهد السياسي أطول فترة ممكنة.

يُعارض مجلس النواب بقيادة عقيلة صالح طرح الاستفتاء الدستوري في هذه المرحلة، معتبرًا أنه محاولة لتعطيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ووفقاً لتصريحات عقيلة صالح، فإن المجلس أعد القاعدة الدستورية بالفعل، ويمكن إجراء الانتخابات قبل نهاية العام، مما يُظهر عدم حاجته إلى استفتاء جديد. ويعكس هذا الموقف إصرار البرلمان على الدفع نحو انتخابات سريعة، بدلًا من الدخول في متاهات قانونية ودستورية جديدة.

رغم بعض التوافقات مع مجلس النواب، فإن المجلس الأعلى للدولة لا يرى أن الاستفتاء على الدستور يجب أن يكون شرطًا للانتخابات، بل إنه أعلن عن تشكيل لجنة لمراجعة القوانين الانتخابية، مما يعكس توجهًا أكثر براغماتية نحو إجراء الانتخابات أولًا، ومن ثم معالجة القضايا الدستورية لاحقًا.

حتى في حال قبول الاستفتاء كخطوة ضرورية، فإن هناك عقبات كبيرة تحول دون تمريره بسهولة. فكما أشار أسعد زهيو، هناك رفض واسع من قبل المكونات الثقافية في ليبيا، مثل الأمازيغ والتبو والطوارق، بالإضافة إلى وجود شرائح اجتماعية وسياسية أخرى تتحفظ على المسودة الدستورية. وهذا قد يؤدي إلى نزاعات قانونية وسياسية، وإطالة أمد المرحلة الانتقالية، بدلًا من التقدم نحو الانتخابات.

وفقًا لتصريحات صالح افحيمة، فإن بعض القوى الغربية تدعم استمرار الدبيبة في الحكم، لأنها ترى أنه يوفر استقرارًا نسبيًا للمصالح الدولية، خاصة فيما يتعلق بالطاقة والنفط. وربما يكون الدفع نحو الاستفتاء على الدستور جزءًا من هذه الاستراتيجية، لإبقاء الوضع على ما هو عليه، دون حدوث تغييرات سياسية جذرية.

لعبت جامعة الدول العربية، بدعم من مصر، دورًا في تقريب وجهات النظر بين مجلسي النواب والدولة، وصولًا إلى اتفاق مبدئي على تشكيل حكومة موحدة تشرف على الانتخابات. ويُتوقع أن تلعب القاهرة دورًا أكبر في الاجتماعات المقبلة لضمان تنفيذ هذا الاتفاق، والضغط لعدم فتح مسارات بديلة مثل الاستفتاء الدستوري.

مع وصول ستيفاني خوري إلى ليبيا كرئيسة للبعثة الأممية بالإنابة، يبدو أن الأمم المتحدة تحاول إيجاد مخرج يجمع بين الاستفتاء والانتخابات. ولكن بالنظر إلى التعقيدات الداخلية، فمن المحتمل أن يكون موقف البعثة أكثر ميلًا إلى التسوية بين الأطراف بدلًا من دعم طرف على حساب آخر.

إذا نجحت جهود مجلسي النواب والدولة، بدعم من الجامعة العربية، في تشكيل حكومة موحدة، فإن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قد تُجرى قبل نهاية العام. ولكن هذا السيناريو يتطلب توافقًا أوسع بين مختلف القوى السياسية والمجتمعية، وضمانات لقبول النتائج من الأطراف المتنازعة.

في حال تمسك الدبيبة بموقفه ونجح في إقناع بعض الأطراف الدولية بضرورة الاستفتاء أولًا، فقد يؤدي ذلك إلى إطالة أمد المرحلة الانتقالية وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى. ولكن هذا الخيار سيواجه رفضًا شعبيًا وسياسيًا واسعًا، وقد يُفاقم الأزمة بدلًا من حلها.

إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بين مجلسي النواب والدولة، ولم يُطرح الاستفتاء بشكل واضح، فإن المشهد السياسي قد يبقى في حالة من الجمود، حيث تبقى حكومة الدبيبة في طرابلس، بينما يستمر البرلمان في رفضها. وهذا قد يؤدي إلى تصعيد سياسي جديد، وربما عودة الانقسام المؤسساتي من جديد.

تعكس مسألة الاستفتاء على الدستور أحد أوجه الأزمة الليبية الأعمق، وهي الصراع المستمر بين الشرعيات المختلفة، وعدم وجود توافق على خارطة طريق موحدة. فبينما يرى البعض أن الاستفتاء شرط أساسي لإجراء انتخابات شرعية، فإن آخرين يعتبرونه مجرد ذريعة لعرقلة الانتخابات، وإطالة عمر المرحلة الانتقالية.

إن نجاح أي حل سياسي في ليبيا مرهون بتوافق داخلي حقيقي، ودعم دولي غير منحاز، وضمانات لقبول نتائج الانتخابات. بدون ذلك، ستبقى البلاد عالقة في دوامة المراحل الانتقالية، دون الوصول إلى استقرار سياسي مستدام.

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!