لماذا لا يزال الحديث عن الجنسانية في العالم العربي محاصرًا بالرقابة والخوف والوصمة؟ هل يُمكن للحراك النسوي أن يُعيد تعريف العلاقة بين الجندر والجنس في المجتمعات المحافظة، أم أن الخوض في هذه المسائل يعني الدخول في صدام مباشر مع البنى التقليدية؟ وما مدى ارتباط التحرر الجنسي بتحرر النساء من القيود الذكورية التي تحكم أجسادهن واختياراتهن؟
في المجتمعات العربية، تظل الجنسانية واحدة من أكثر القضايا حساسية، حيث يتم التعامل معها كموضوع محظور لا يجوز مناقشته علنًا. التابوهات المتعلقة بالجسد، والرغبة، والعلاقات الحميمية، تُستخدم غالبًا كأداة لضبط النساء وإخضاعهن لمعايير اجتماعية صارمة، يتم فرضها من خلال العائلة، المؤسسة الدينية، وحتى القوانين.
تشير دراسة صادرة عن “المركز العربي للبحوث الاجتماعية” عام 2022 إلى أن أكثر من 70% من النساء في الدول العربية يفتقرن إلى أي معرفة دقيقة حول صحتهن الجنسية والإنجابية، بسبب غياب التثقيف الجنسي في المناهج الدراسية وسيطرة الثقافة المحافظة على الخطاب العام.
ترى الباحثة المغربية أميمة الإدريسي، المختصة في الدراسات الجندرية، أن “التحكم في أجساد النساء هو أحد أبرز أدوات النظام الأبوي. منذ الصغر، يتم تربية الفتيات على أن جسدهن ملك للمجتمع، وأن سلوكهن الجنسي يجب أن يكون تحت رقابة العائلة والمجتمع، بينما يُمنح الرجال حرية أوسع في التعبير عن رغباتهم. هذه الازدواجية هي جوهر المشكلة”.
العذرية والشرف: عندما يصبح الجسد ساحة معركة
أحد أكبر التحديات التي تواجهها النساء في العالم العربي هو الهوس المجتمعي بالعذرية، حيث يتم ربط شرف العائلة بجسد المرأة، في معادلة تجعل النساء مسؤولات وحدهن عن “الحفاظ على الشرف”، بينما يتم إعفاء الرجال من أي التزامات مماثلة.
رغم أن العديد من الدول بدأت بإلغاء الفحوص الطبية المهينة المتعلقة بالعذرية، مثل الجزائر والمغرب، لا تزال هذه الممارسة منتشرة في بعض المناطق، وتُستخدم كأداة للسيطرة على النساء، أو حتى لمعاقبتهن على خروجهن عن الأدوار التقليدية.
تشير المحامية التونسية نجلاء الرحالي، المتخصصة في قضايا العنف ضد النساء، إلى أن “المشكلة ليست فقط في القوانين، بل في العقلية المجتمعية التي تجعل العذرية معيارًا لقيمة المرأة. هذه الفكرة تمنح العائلات الحق في فرض قيود على النساء، ومنح الرجال سلطة مطلقة على حيواتهن. حتى في بعض الحالات التي تُلغى فيها الفحوص رسميًا، يظل الضغط المجتمعي كافيًا لاستمرار هذه الممارسات”.
رغم أن النسوية تدافع عن حقوق المرأة في التحرر من القيود المفروضة عليها، إلا أن قضايا المثلية والهوية الجندرية تظلّ مواضيع شائكة داخل الخطاب النسوي العربي. بعض الحركات النسوية تتجنب مناقشة حقوق مجتمع الميم خوفًا من فقدان الدعم الشعبي، بينما تواجه النسويات الكويريات تحديات مضاعفة، حيث يتعرضن للهجوم من المجتمع المحافظ، وأحيانًا من داخل الحركات النسوية نفسها.
في تقرير صادر عن “هيومن رايتس ووتش” عام 2023، تم توثيق حالات اعتقال واستهداف لأشخاص من مجتمع الميم في عدة دول عربية، حيث يتم تجريم العلاقات المثلية أو قمع أي محاولات للاعتراف القانوني بحقوقهم.
توضح الناشطة اللبنانية رُلى مهنا، المدافعة عن حقوق مجتمع الميم، أن “النسوية يجب أن تشمل كل الهويات الجندرية والجنسية، لأن التحرر لا يمكن أن يكون انتقائيًا. لا يمكن للنساء المطالبة بالمساواة في الحقوق، بينما يتم استثناء المثليات والمتحولات جنسيًا من هذه الحركات. التحرر لا يجب أن يكون مشروطًا بمعايير المجتمع المحافظ”.
القوانين والانتهاكات: هل التشريعات تحمي أم تعاقب النساء؟
في العديد من الدول العربية، لا تزال القوانين تجرّم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، مما يجعل النساء عرضة للابتزاز والانتهاكات. في بعض الدول، قد تواجه المرأة عقوبة قانونية إذا تم ضبطها في علاقة خارج الزواج، بينما لا يتم ملاحقة الرجل بنفس الحدة، مما يخلق فجوة واضحة في كيفية تطبيق القوانين على أساس الجنس.
القوانين المتعلقة بالإجهاض أيضًا تُشكل عائقًا كبيرًا أمام النساء في كثير من الدول العربية. في المغرب ومصر والأردن، لا يزال الإجهاض محظورًا إلا في حالات استثنائية، مما يدفع العديد من النساء إلى اللجوء إلى عمليات إجهاض غير آمنة، مما يعرض حياتهن للخطر.
تشير الطبيبة السورية هالة الأسعد، المختصة في الصحة الإنجابية، إلى أن “القوانين التي تمنع الإجهاض لا تقل خطورة عن العنف الجسدي الذي تتعرض له النساء. هذه القوانين تجبر النساء على الاستمرار في حمل غير مرغوب فيه، مما يؤدي إلى أضرار نفسية واجتماعية خطيرة. الحل ليس في القمع، بل في منح النساء الحق في تقرير مصير أجسادهن”.
إعادة تعريف العلاقة بين الجندر والجنسانية في المجتمعات العربية تحتاج إلى نهج شامل، يشمل إصلاحات قانونية، وتغييرًا في المناهج التعليمية، وحملات توعية مجتمعية تُعيد صياغة المفاهيم المتعلقة بالجنس والجسد والعلاقات الإنسانية.
التعليم الجنسي، رغم كونه موضوعًا حساسًا، يُعدّ أحد أهم الأدوات لكسر التابوهات. في بعض الدول العربية، مثل تونس ولبنان، بدأت منظمات حقوقية في تقديم برامج توعية حول الصحة الجنسية، لكن هذه الجهود لا تزال محدودة بسبب مقاومة المجتمع والمؤسسات الدينية.
الإعلام أيضًا يلعب دورًا رئيسيًا، حيث أن الصورة النمطية للمرأة والجسد في السينما والدراما تساهم في ترسيخ المفاهيم الذكورية القمعية، بدلًا من أن تكون وسيلة لكسر المحرمات وإعادة صياغة العلاقة بين الجنسين.
تقول الباحثة الجزائرية ليلى بن سالم، المتخصصة في الإعلام والجندر، إن “المسلسلات والأفلام العربية لا تزال تعيد إنتاج الصورة التقليدية للمرأة، حيث يتم تصويرها كضحية أو كائن ضعيف، أو يتم شيطنة النساء اللواتي يعبرن عن رغباتهن بحرية. هذا يعكس مدى قوة البنية الذكورية في الإعلام، التي تجعل أي محاولة لتقديم نموذج نسوي تحرري أمرًا صعبًا”.
بين القيود القانونية، والضغوط الاجتماعية، والتشويه الإعلامي، تظل قضايا الجنسانية في المجتمعات العربية من أكثر المواضيع تعقيدًا. التحرر الجسدي والجنسي للمرأة يظلّ مرتبطًا بتحررها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مما يجعل أي حديث عن هذه القضايا مواجهة مباشرة مع السلطة الذكورية التي تتحكم في كافة مجالات الحياة.
السؤال الذي يظل معلقًا: هل ستتمكن الحركات النسوية في العالم العربي من مواجهة التابوهات الكبرى وكسر القيود المفروضة على الجنسانية، أم أن المجتمع سيبقى يحاصر هذه القضايا بالرقابة والوصم؟