لم يكن البلاستيك في يوم من الأيام مشكلة كما هو اليوم. فمنذ أن دخل حياتنا اليومية قبل أكثر من قرن، تحوّل إلى جزء أساسي من كل شيء حولنا: التغليف، الأدوات المنزلية، الأجهزة الإلكترونية، وحتى الملابس. لكن في العقود الأخيرة، بدأت الأزمة تتفاقم مع تنامي الإنتاج والاستهلاك غير المستدام للبلاستيك، ما أدى إلى تراكم ملايين الأطنان من النفايات البلاستيكية التي تملأ المحيطات، وتلوث التربة، وتهدد الحياة البحرية والبشرية على حد سواء. وبينما تتجه بعض الدول إلى فرض قيود على استخدامه، لا تزال العديد من الدول العربية متأخرة في هذا المجال، ما يثير تساؤلات حول مدى جدية الحكومات في مواجهة هذه الأزمة البيئية العالمية.
تشير بيانات صادرة عن “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” عام 2023 إلى أن الإنتاج العالمي من البلاستيك تجاوز 400 مليون طن سنوياً، مع توقعات بأن يتضاعف هذا الرقم بحلول عام 2050 إذا استمرت الاتجاهات الحالية. الأسوأ من ذلك، أن أقل من 10% فقط من هذه الكمية يتم تدويرها، بينما ينتهي الباقي في المحيطات والمكبات والنظم البيئية، حيث يحتاج إلى مئات السنين ليتحلل.
في المنطقة العربية، تبدو المشكلة أكثر تعقيداً بسبب ضعف أنظمة إدارة النفايات، حيث تشير تقارير “البنك الدولي” إلى أن الدول العربية تنتج حوالي 12 مليون طن من النفايات البلاستيكية سنوياً، يتم إعادة تدوير أقل من 5% منها. في مصر وحدها، يُقدر أن أكثر من 3 ملايين طن من النفايات البلاستيكية تُلقى سنوياً، معظمها في نهر النيل، مما يتسبب في تلويث مصادر المياه العذبة، وتهديد التنوع البيولوجي في النهر. في الخليج العربي، أدى ارتفاع الاستهلاك إلى تفاقم الأزمة، حيث تُعد دول مثل الإمارات والسعودية من بين أعلى الدول استهلاكاً للبلاستيك في العالم، نظراً للاعتماد الكبير على المنتجات ذات الاستخدام الواحد.
يقول الدكتور سامي الحداد، أستاذ البيئة والتلوث في جامعة الكويت، إن “أزمة النفايات البلاستيكية في العالم العربي ليست فقط نتيجة لزيادة الاستهلاك، ولكن أيضاً بسبب غياب السياسات الفعالة لإدارة النفايات. معظم الدول العربية لا تمتلك أنظمة حقيقية لإعادة التدوير، ما يجعل البلاستيك ينتهي غالباً في مدافن النفايات أو المحيطات”. ويرى أن الحلول يجب أن تبدأ من تقليل الإنتاج نفسه، وليس فقط البحث عن طرق لإدارة المخلفات.
المحيطات تحت حصار البلاستيك
المشكلة لا تقتصر على اليابسة فقط، فالمحيطات أصبحت مستودعاً ضخماً للنفايات البلاستيكية، حيث تشير تقديرات “المنظمة البحرية الدولية” إلى أن أكثر من 8 ملايين طن من البلاستيك ينتهي في البحار كل عام، ما يشكل خطراً كبيراً على الحياة البحرية. تظهر الدراسات أن أكثر من 90% من الطيور البحرية تحمل جزيئات بلاستيكية في أمعائها، بينما تُرصد كميات هائلة من البلاستيك في معدة الحيتان والسلاحف البحرية، مما يؤدي إلى نفوق أعداد كبيرة منها سنوياً.
في البحر الأبيض المتوسط، الذي يحدّ العديد من الدول العربية، تُعد مستويات التلوث البلاستيكي من بين الأعلى في العالم. تقرير صادر عن “الصندوق العالمي للطبيعة” عام 2022 حذر من أن البحر المتوسط يحتوي على 250 ألف طن من النفايات البلاستيكية العائمة، ما يجعله واحداً من أكثر المسطحات المائية تلوثاً بالبلاستيك عالمياً. في لبنان، يعاني الشريط الساحلي من تراكم النفايات البلاستيكية بشكل غير مسبوق، حيث تظهر الأكياس والزجاجات البلاستيكية في كل مكان، بدءاً من الشواطئ السياحية وصولاً إلى أعماق البحر.
تشير الدكتورة مها صبري، الباحثة في علوم البحار بجامعة الإسكندرية، إلى أن “التلوث البلاستيكي في البحر المتوسط أصبح خطراً يهدد النظام البيئي البحري، حيث تتعرض الأسماك والمحار لامتصاص الجزيئات البلاستيكية الدقيقة، ما يؤدي إلى انتقال هذه المواد إلى السلسلة الغذائية، وبالتالي إلى الإنسان”. وتحذر من أن استمرار هذا التلوث قد يؤدي إلى انهيار النظم البيئية البحرية، مما سيؤثر سلباً على قطاعي الصيد والسياحة في العديد من الدول المطلة على المتوسط.
مبادرات الحد من البلاستيك: بين النجاح والتحديات
على الرغم من خطورة الأزمة، بدأت بعض الدول في اتخاذ خطوات للحد من استخدام البلاستيك. المغرب كان من أوائل الدول العربية التي حظرت استخدام الأكياس البلاستيكية منذ عام 2016، في إطار قانون صارم يهدف إلى تقليل التلوث البلاستيكي. في الإمارات، تم الإعلان عن خطط لحظر المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد بحلول عام 2024، مع إطلاق حملات توعوية تدعو إلى استخدام البدائل القابلة للتحلل. في السعودية، تم تطبيق قوانين جديدة تفرض رسوماً إضافية على المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد، بهدف تقليل استهلاكها تدريجياً.
لكن رغم هذه المبادرات، لا تزال معظم الدول العربية بعيدة عن تحقيق تقدم ملموس في الحد من التلوث البلاستيكي. تقول الدكتورة رُبى العبدالله، الخبيرة في السياسات البيئية بجامعة بيروت، إن “السياسات الحالية للحد من البلاستيك في العالم العربي لا تزال غير كافية، لأن معظمها يركز على حظر بعض المنتجات، دون وجود خطط حقيقية لإعادة التدوير أو تشجيع الصناعات البديلة”. وترى أن الحل يكمن في وضع سياسات أكثر شمولية تشمل فرض ضرائب على المنتجات البلاستيكية، وتشجيع الاستثمارات في المواد البديلة مثل البلاستيك القابل للتحلل، وتحسين البنية التحتية لإدارة النفايات.
رغم الجهود المبذولة، فإن التخلص النهائي من البلاستيك يبدو مستبعداً في المستقبل القريب، نظراً لاعتماد الاقتصاد العالمي عليه في العديد من القطاعات، من التغليف إلى الرعاية الصحية. لكن التحول إلى نمط أكثر استدامة أصبح ضرورة، وليس خياراً. يرى الدكتور عادل المصري، الباحث في تقنيات المواد المستدامة بجامعة القاهرة، أن “التخلص من البلاستيك بالكامل قد يكون غير واقعي، لكن يمكننا تقليل تأثيره من خلال تطوير بدائل بيئية، مثل البلاستيك المصنوع من النباتات، وإعادة تدوير المواد البلاستيكية الموجودة بدلاً من إنتاج المزيد منها”.
يبدو أن لعنة البلاستيك ستظل تطارد البيئة لفترة طويلة، لكن ذلك لا يعني الاستسلام. التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد حلول مبتكرة ومستدامة تقلل من الاعتماد على البلاستيك التقليدي، وتضمن إدارة أكثر كفاءة للنفايات. فهل تكون العقود القادمة شاهدة على نهاية البلاستيك كما نعرفه، أم أن البشرية ستواصل إنتاجه بكميات تفوق قدرتها على التعامل معه؟