Spread the love

عندما يُذكر الهولوكوست، تتجه الأنظار تلقائياً إلى جرائم النازيين ضد اليهود، حيث تُعتبر واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية في القرن العشرين. لكن وسط هذا التاريخ المأساوي، هناك فصل شبه منسي، يتعلق بإبادة عشرات الآلاف من الغجر والسلاف وغيرهم من الأقليات العرقية، الذين واجهوا نفس وحشية آلة القتل النازية، ولكن دون أن يحظوا بنفس الاهتمام في السرد التاريخي الرسمي. كيف ولماذا تم إغفال هذه المجازر من الذاكرة الجماعية، وما هو الدور الذي لعبته الأيديولوجيا العنصرية في إبادة هذه الفئات؟

لم يكن الاضطهاد النازي للغجر والسلاف وليد الحرب العالمية الثانية، بل كان امتداداً لعقود من العنصرية الأوروبية ضد هذه الفئات. منذ القرن التاسع عشر، اعتُبر الغجر والسلاف شعوباً “أدنى عرقياً” من قبل القوميين الألمان، الذين رأوا فيهم تهديداً “للنقاء الآري”. الغجر، الذين عاشوا على هامش المجتمعات الأوروبية، تعرضوا للتمييز والتهميش عبر قرون، وكانوا يُعاملون كغرباء داخل القارة التي عاشوا فيها لقرون. أما السلاف، فقد كانت النظرة إليهم أكثر تعقيداً، حيث تم تصنيفهم من قبل الأيديولوجيا النازية كـ “عبيد طبيعيين”، يجب استعبادهم أو تصفيتهم لصالح الهيمنة الجرمانية.

عندما صعد النازيون إلى السلطة عام 1933، تم وضع سياسات ممنهجة للقضاء على الوجود الغجري في ألمانيا، حيث تم تجريدهم من حقوق المواطنة، وإخضاعهم لإجراءات صارمة، مثل فرض الإقامة القسرية، وإخضاعهم للتجارب الطبية القسرية، والحرمان من الوظائف والتعليم. أما السلاف، فقد كان وضعهم أكثر ارتباطاً بالتوسع النازي في أوروبا الشرقية، حيث كانت خطط هتلر تهدف إلى احتلال أراضيهم واستعبادهم لصالح المستوطنين الألمان.

ماذا حدث للغجر في معسكرات الموت؟

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تحولت السياسات العنصرية إلى مجازر منهجية. تم إرسال الغجر إلى معسكرات الاعتقال، حيث تعرضوا لنفس وسائل الإبادة التي استخدمت ضد اليهود. كانت “زيغوينرلاجر” (معسكرات الغجر) جزءاً من شبكة الاعتقال النازية، وكان أشهرها معسكر أوشفيتز-بيركيناو، حيث قُتل أكثر من 20 ألف غجري في ليلة واحدة في أغسطس 1944، فيما عُرف باسم “ليلة إبادة الغجر”.

لم تكن الإبادة مقصورة على القتل المباشر، بل شملت تجارب طبية وحشية أجراها الطبيب النازي جوزيف منغيله، الذي استخدم أطفال الغجر كعينات لاختبار نظرياته الطبية العنصرية، متسبباً في موتهم بطرق مروعة. بعض الناجين من هذه الفظائع تحدثوا لاحقاً عن كيف كان يُجبر الأطفال على الخضوع لعمليات جراحية بدون تخدير، أو يتم تعريضهم للبرد القارس لدراسة قدرة الجسم البشري على التحمل.

كيف كانت إبادة السلاف أكثر وحشية من أي سرد تاريخي تقليدي؟

بينما كان الغجر ضحايا للعنصرية المنهجية، كان السلاف يواجهون حرب إبادة شاملة. لم يكن هدف النازيين مجرد القضاء على السلاف كأفراد، بل تدمير وجودهم الحضاري بالكامل. عندما غزا الجيش الألماني الاتحاد السوفييتي في عام 1941، تم تنفيذ خطة “جنرالبلان أوست”، التي كانت تهدف إلى القضاء على 50 مليون سلافي خلال العقود اللاحقة، وإعادة توطين أراضيهم بالمستوطنين الألمان.

الفظائع النازية في أوروبا الشرقية تجاوزت حتى ما حدث في معسكرات الاعتقال. في أوكرانيا وبيلاروسيا، تم تدمير آلاف القرى بالكامل، وقتل سكانها بدم بارد. تم إطلاق حملات إبادة جماعية ضد المدنيين، حيث كانت فرق القتل المتنقلة، المعروفة باسم “أينزاتسغروبن”، تجوب الأراضي المحتلة، وتعدم السكان بالجملة، خاصة في بولندا وأوكرانيا. لم يكن هناك تمييز بين الرجال والنساء والأطفال، حيث كان يتم إطلاق النار على العائلات بأكملها ودفنهم في مقابر جماعية، دون أي تسجيل رسمي لمصيرهم.

لماذا لم يتم الاعتراف بهذه الإبادة على نطاق واسع؟

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تم التركيز في المحاكمات الدولية، مثل محاكم نورمبرغ، على إبادة اليهود بشكل أساسي، بينما لم تحظَ الجرائم ضد الغجر والسلاف بنفس الاهتمام. كان هناك عدة أسباب لهذا التجاهل، من بينها أن الغجر لم يكن لديهم دولة تدافع عنهم، كما أن معظم أرشيفهم التاريخي دُمّر خلال الحرب، مما صعّب توثيق الجرائم التي تعرضوا لها.

أما في حالة السلاف، فقد لعبت السياسة دوراً كبيراً في تهميش معاناتهم، حيث لم يكن الاتحاد السوفييتي بعد الحرب مهتماً بتسليط الضوء على حجم الإبادة التي تعرض لها شعبه، بل ركّز على دوره كمنتصر في الحرب. في بولندا ودول أوروبا الشرقية التي سقطت تحت النفوذ السوفييتي، لم يكن من مصلحة الأنظمة الشيوعية إثارة قضايا الجرائم النازية التي قد تعيد فتح الجروح القديمة، ولذلك تم التعامل مع إبادة السلاف كجزء من “التضحيات العامة للحرب”، وليس كإبادة ممنهجة بذاتها.

حتى في أوروبا الغربية، لم يكن هناك اهتمام كبير بهذا الجانب من الهولوكوست، لأن التركيز كان منصباً على معاداة السامية، ولم تكن هناك ضغوط سياسية أو إعلامية لإبراز معاناة الغجر والسلاف بنفس الطريقة.

بعد عقود من التجاهل، بدأ الاعتراف التدريجي بمأساة الغجر والسلاف في العقود الأخيرة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وظهور وثائق تاريخية جديدة توضح حجم الفظائع التي تعرضوا لها. في عام 2011، اعترفت الحكومة الألمانية رسمياً بأن الغجر كانوا ضحايا إبادة جماعية، وتم إنشاء نصب تذكاري لهم في برلين، لكن هذا الاعتراف جاء بعد عقود من الصمت.

أما في ما يتعلق بالسلاف، فلا يزال هناك نقص في التوعية بحجم الجرائم التي ارتُكبت بحقهم. في أوكرانيا وبولندا وروسيا، بدأت بعض الحكومات في تسليط الضوء على هذه الإبادة، لكن لا يزال هناك الكثير من العمل المطلوب لضمان أن هذه الفصول المنسية من التاريخ يتم الاعتراف بها بالكامل.

تبقى الإبادة الجماعية للغجر والسلاف واحدة من أكبر الفجوات في السرد التاريخي للهولوكوست. ما تعرضوا له لم يكن مجرد نتيجة ثانوية للحرب، بل كان جزءاً من خطة منهجية لإعادة تشكيل أوروبا بناءً على رؤية عنصرية متطرفة. بعد أكثر من سبعين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، لا يزال هناك جهد كبير مطلوب لتصحيح هذا الخلل التاريخي، وضمان أن هؤلاء الضحايا لا يتم نسيانهم مرة أخرى في صفحات التاريخ.

error: Content is protected !!