Spread the love

لطالما كان الإنسان يبحث عن الحقيقة، سواء من خلال الفلسفة، أو العلم، أو الدين. لكن مع دخولنا القرن الحادي والعشرين، بدأ مفهوم “الحقيقة” نفسه يتعرض للتشكيك. أصبحنا نسمع مصطلحات مثل “ما بعد الحقيقة” (Post-Truth)، حيث لم تعد الحقائق الموضوعية هي التي تحدد ما نؤمن به، بل أصبحت المشاعر والمعتقدات الشخصية، والدعاية، والتلاعب الإعلامي، أكثر تأثيراً في تشكيل رؤيتنا للعالم.

إذا لم تعد الحقيقة هي المعيار الأساسي، فما الذي يحل محلها؟ هل دخلنا عصراً جديداً تكون فيه الحقيقة مجرد وجهة نظر؟ أم أن هذا المفهوم نفسه مجرد أداة جديدة للسيطرة والتحكم في وعي الناس؟

منذ العصور القديمة، انقسم الفلاسفة حول طبيعة الحقيقة. رأى أفلاطون أن الحقيقة مطلقة، موجودة في عالم المثل، بينما اعتبر السفسطائيون أن الحقيقة نسبية، تعتمد على وجهة نظر كل فرد. في العصور الحديثة، جاء الفيلسوف فريدريك نيتشه ليطرح رؤية أكثر راديكالية، حيث رأى أن الحقيقة ليست سوى بناء اجتماعي، وأن ما نعتبره “حقائق” هو في الواقع تعبير عن إرادة القوة لمن يملك السلطة.

لاحقاً، عززت الفلسفة ما بعد الحداثية هذا الاتجاه، حيث رأى فلاسفة مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا أن الحقيقة ليست سوى خطاب يُستخدم لإنتاج السلطة والسيطرة على المجتمعات. بهذه النظرة، لم تعد الحقيقة موضوعية، بل أصبحت خاضعة للتفسير، والتأويل، والمصالح السياسية.

الإعلام والسيطرة: من صناعة الأخبار إلى صناعة الواقع

مع ظهور الإعلام الحديث، بدأ مفهوم الحقيقة يتغير بشكل جذري. في السابق، كانت الصحافة تُعتبر وسيلة لنقل الحقائق، لكنها تحولت تدريجياً إلى أداة لصناعة الروايات، حيث يتم التلاعب بالمعلومات لخدمة أجندات سياسية أو اقتصادية. ومع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الحقيقة أكثر مرونة من أي وقت مضى.

أصبحت المنصات الرقمية بيئة خصبة للأخبار الزائفة، حيث يتم نشر المعلومات الكاذبة بسرعة تفوق قدرة المؤسسات التقليدية على التحقق منها. وفقاً لدراسات أكاديمية، فإن الأخبار الزائفة تنتشر بسرعة تفوق الأخبار الحقيقية بست مرات على الأقل، لأن الناس يميلون إلى مشاركة المعلومات التي تثير مشاعرهم، بغض النظر عن مدى صحتها.

يقول الدكتور عباس النمري، الباحث في الإعلام الرقمي، إن “ما بعد الحقيقة لا يعني أن الحقيقة اختفت، بل يعني أن ما نعتبره حقيقة أصبح خاضعاً للانحيازات العاطفية والمصالح الشخصية أكثر من الحقائق الموضوعية”.

العلوم والحقائق البديلة: هل يمكن التشكيك في كل شيء؟

حتى العلم، الذي يُفترض أنه آخر معقل للحقيقة الموضوعية، لم يسلم من تأثيرات عصر ما بعد الحقيقة. في السنوات الأخيرة، شهدنا صعود ما يُعرف بـ”الحقائق البديلة”، حيث يتم تقديم نظريات غير علمية على أنها مساوية للحقائق العلمية المثبتة.

تجلى ذلك في انتشار نظريات المؤامرة حول اللقاحات، والاحتباس الحراري، ونظريات الأرض المسطحة. على الرغم من أن هناك إجماعاً علمياً حول هذه القضايا، فإن ملايين الأشخاص لا يزالون يؤمنون بأنها مجرد “خدعة كبرى”، مما يعكس تآكل الثقة في المؤسسات العلمية والتقنية.

يقول نادر الحليمي، أستاذ الفلسفة، إن “العلم ليس مجرد مجموعة من الحقائق، بل هو عملية مستمرة لاكتشاف الحقيقة. المشكلة هي أن الناس أصبحوا ينظرون إلى العلم كأنه رأي آخر، وليس كمنهج قائم على التجربة والدليل”.

مع ظهور الذكاء الاصطناعي والخوارزميات، أصبح من السهل توجيه الناس نحو تصديق حقائق معينة دون أن يدركوا أنهم يتعرضون للتلاعب. تعمل خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي على تعزيز المعلومات التي تتوافق مع ميول المستخدم، مما يؤدي إلى خلق “فقاعات معرفية” تجعل الناس يرون فقط ما يؤكد معتقداتهم المسبقة.

إذا كان شخص ما يؤمن بنظرية مؤامرة معينة، فإن الخوارزميات ستعرض له المزيد من المحتوى الذي يدعم هذه النظرية، مما يعزز قناعته بأنه على حق، ويبعده عن أي معلومات مناقضة. بهذه الطريقة، أصبح من السهل التحكم في إدراك الناس للحقيقة دون أن يكونوا واعين بذلك.

يقول محمد طاهر، الخبير في الذكاء الاصطناعي، إن “الخطر الحقيقي في عصر ما بعد الحقيقة ليس فقط انتشار الأخبار الزائفة، بل أن الناس أصبحوا يعيشون في عوالم رقمية موازية، حيث يصدقون فقط ما يتفق مع رؤيتهم الخاصة، ويرفضون أي شيء خارج تلك الفقاعة”.

هل هناك مخرج من عصر ما بعد الحقيقة؟

إذا كنا نعيش في عالم أصبحت فيه الحقيقة نسبية إلى هذا الحد، فهل يمكننا العودة إلى عصر تكون فيه الحقائق الموضوعية هي المعيار الأساسي؟ أم أن مفهوم الحقيقة نفسه قد انتهى إلى الأبد؟

يرى البعض أن الحل يكمن في تعزيز التفكير النقدي، وتعليم الناس كيفية التحقق من المعلومات، وعدم تصديق كل ما يرونه على الإنترنت. كما يقترح آخرون فرض قوانين أكثر صرامة على وسائل الإعلام الرقمية للحد من انتشار المعلومات الكاذبة.

لكن هناك أيضاً من يرى أن عصر ما بعد الحقيقة ليس مرحلة مؤقتة، بل هو تطور طبيعي في طريقة تعامل البشر مع المعلومات. إذا كان الماضي يعتمد على النخبة الإعلامية لنقل الأخبار، فإن الحاضر أصبح يعتمد على الجماهير نفسها في تشكيل الواقع، حتى لو كان ذلك يعني اختفاء الحقيقة التقليدية.

يبدو أننا دخلنا في حقبة لم يعد فيها التمييز بين الحقيقة والزيف سهلاً كما كان في السابق. لكن ربما لم تمت الحقيقة تماماً، بل تغيرت طريقة فهمنا لها. في عالم تحكمه العواطف والمصالح، لم تعد الحقيقة هي التي تقود الوعي الجماعي، بل أصبحت أداة تُستخدم لإعادة تشكيله.

السؤال الأكبر الآن ليس ما إذا كانت الحقيقة لا تزال موجودة، بل ما إذا كان الناس مستعدين للبحث عنها وسط الفوضى الرقمية والمعلوماتية التي تحيط بهم. وبينما تزداد تعقيدات هذا العصر، يبقى من الضروري أن نعيد التفكير في علاقتنا بالحقيقة، قبل أن نجد أنفسنا في عالم لم يعد يميز بين الواقع والوهم.

error: Content is protected !!