في حين يركز العالم على مشكلات البيئة الأرضية مثل التلوث البلاستيكي وارتفاع درجة حرارة الكوكب، هناك أزمة بيئية أخرى تتصاعد خارج نطاق الغلاف الجوي، لكنها قد تؤثر بشكل مباشر على مستقبل البشرية. النفايات الفضائية، وهي المخلفات الناتجة عن الأقمار الصناعية القديمة، والصواريخ المهجورة، وشظايا المركبات الفضائية، باتت تشكل خطرًا متزايدًا على البعثات الفضائية والبنية التحتية للاتصالات العالمية. ومع تسارع سباق الفضاء، يطرح السؤال: هل يمكن أن تصبح مدارات الأرض مكبًا للنفايات، وهل هناك حلول لهذه الأزمة قبل أن تخرج عن السيطرة؟
تتكون النفايات الفضائية من أجزاء الأقمار الصناعية المحطمة، ومخلفات الصواريخ، وأي قطع معدنية صغيرة ناجمة عن تصادمات في الفضاء. بعض هذه المخلفات تتحرك بسرعات تصل إلى 28,000 كيلومتر في الساعة، مما يجعلها تهديدًا قاتلًا لأي مركبة فضائية أو قمر صناعي يعترض طريقها.
وفقًا لوكالة الفضاء الأوروبية، هناك أكثر من 36,000 قطعة نفايات يزيد حجمها عن 10 سنتيمترات تدور حول الأرض، إضافةً إلى ملايين الجسيمات الصغيرة التي يمكن أن تسبب أضرارًا جسيمة لأي مركبة فضائية عند الاصطدام بها. في عام 2009، اصطدم القمر الصناعي الأمريكي “إيريديوم 33” بقمر صناعي روسي مهجور، ما أدى إلى تحطم القمرين وانتشار آلاف القطع من الحطام في المدار، وهو مثال حي على الكارثة التي قد تتكرر إذا لم يتم السيطرة على هذه الظاهرة.
يقول الدكتور جلال النميري، أستاذ الفيزياء الفضائية، إن “النفايات الفضائية ليست مجرد مشكلة نظرية، بل هي خطر حقيقي يهدد مستقبل استكشاف الفضاء. أي تصادم صغير يمكن أن يؤدي إلى تأثير دومينو، حيث تتسبب الشظايا في مزيد من الاصطدامات، مما يخلق سحابة من الحطام قد تجعل بعض المدارات غير صالحة للاستخدام لعقود”.
مع ازدياد عدد الأقمار الصناعية التي يتم إطلاقها سنويًا، تتزايد المخاوف من أن النفايات الفضائية قد تعطل أنظمة الاتصالات والملاحة العالمية. يعتمد العالم اليوم على الأقمار الصناعية في تشغيل الإنترنت، وتوجيه أنظمة الملاحة GPS، ورصد الطقس، وإدارة الأنظمة العسكرية. أي ضرر يلحق بهذه الأنظمة قد يتسبب في شلل عالمي على مستويات متعددة.
في عام 2021، اضطرت محطة الفضاء الدولية إلى القيام بمناورة طارئة لتجنب الاصطدام بقطعة حطام فضائي كبيرة، ما أثار قلق العلماء حول مدى خطورة الوضع. حتى شركات مثل “سبيس إكس”، التي تطلق آلاف الأقمار الصناعية لتوسيع شبكات الإنترنت الفضائية، تواجه تحديات متزايدة في تجنب الاصطدامات المحتملة في المدارات المكتظة.
هل يمكن تنظيف الفضاء من النفايات؟
مع تزايد المخاطر، بدأت بعض الشركات والمؤسسات البحثية في تطوير تقنيات لالتقاط النفايات الفضائية والتخلص منها. بعض الحلول المقترحة تشمل:
روبوتات لجمع النفايات: تعمل اليابان والصين على تطوير مركبات فضائية مزودة بأذرع آلية قادرة على التقاط الحطام الفضائي وسحبه إلى الغلاف الجوي لحرقه بأمان.
شباك فضائية: أطلقت وكالة الفضاء الأوروبية تجارب لاستخدام شباك عملاقة يمكن أن تلتقط المخلفات الفضائية وتسحبها إلى الأرض لتدميرها.
أشعة الليزر: هناك أبحاث حول إمكانية استخدام أشعة الليزر الأرضية لدفع الحطام الفضائي إلى مدار أقل حيث يمكن أن يحترق عند دخوله الغلاف الجوي.
لكن رغم هذه الجهود، تبقى التحديات التقنية كبيرة، حيث أن بعض الحطام صغير جدًا ويصعب التقاطه، بينما تتحرك القطع الأكبر بسرعات عالية تجعل أي محاولة لجمعها محفوفة بالمخاطر.
يقول الدكتور هيثم العزاوي، الباحث في هندسة الفضاء، إن “إيجاد حل للنفايات الفضائية ليس خيارًا، بل ضرورة ملحة. إذا لم نتحرك الآن، فقد نصل إلى نقطة لا يمكن عندها استخدام بعض المدارات بسبب كثافة الحطام الموجود فيها”.
هل يمكن أن تتحول النفايات الفضائية إلى فرصة اقتصادية؟
مع تزايد الاهتمام بتنظيف الفضاء، بدأت بعض الشركات الناشئة في التفكير بطريقة مختلفة، حيث ترى أن النفايات الفضائية قد تكون فرصة اقتصادية وليست مجرد مشكلة بيئية. بعض الأفكار المطروحة تشمل:
إعادة تدوير الحطام الفضائي: بعض الشركات تقترح إعادة استخدام القطع المعدنية في الفضاء، بدلًا من إعادتها إلى الأرض، حيث يمكن استخدامها في بناء محطات فضائية أو حتى لصناعة أقمار صناعية جديدة.
استخراج المعادن من النفايات الفضائية: تحتوي بعض الأقمار الصناعية القديمة على معادن ثمينة، مثل الذهب والبلاتين، مما قد يجعل استغلالها أمرًا مربحًا في المستقبل.
رغم أن هذه الأفكار لا تزال في مراحلها الأولى، إلا أن بعض الشركات بدأت في اختبار تقنيات إعادة التدوير في الفضاء، مما قد يفتح المجال لصناعة جديدة قائمة على تحويل النفايات الفضائية إلى موارد قابلة للاستخدام.
إذا لم يتم التعامل مع مشكلة النفايات الفضائية بجدية، فقد نصل إلى وضع تصبح فيه بعض المدارات غير آمنة للاستخدام، مما قد يعيق مستقبل استكشاف الفضاء، ويؤثر على الاتصالات العالمية والملاحة الجوية. بعض العلماء يحذرون من سيناريو “كارثة كيسلر”، وهو سيناريو افتراضي يتوقع أن تؤدي سلسلة من الاصطدامات إلى خلق شبكة من الحطام الفضائي تجعل المدار الأرضي المنخفض غير صالح للاستخدام لعقود أو حتى قرون.
السؤال المطروح الآن هو: هل ستتعاون الدول الكبرى والشركات الفضائية لإيجاد حل لهذه الأزمة قبل فوات الأوان، أم أن سباق الفضاء الجديد سيؤدي إلى تفاقم المشكلة؟ مع تزايد إطلاق الأقمار الصناعية سنويًا، أصبح من الضروري وضع قوانين دولية ملزمة تلزم الشركات والحكومات بالتعامل مع نفاياتها الفضائية بطريقة مسؤولة.
إذا لم يتم اتخاذ إجراءات صارمة قريبًا، فقد نجد أنفسنا في المستقبل أمام مشهد فضائي مشابه لما نشهده اليوم على الأرض: محيطات من المخلفات تحيط بكوكبنا، تعيق التقدم العلمي وتؤثر على مستقبل البشرية في الفضاء.