Spread the love

لطالما كانت السياحة أحد المحركات الأساسية للاقتصاد العالمي، لكنها في الوقت نفسه تُعتبر من أكبر المساهمين في التلوث البيئي، بدءًا من انبعاثات الطائرات إلى النفايات التي يتركها الزوار في المواقع الطبيعية. ومع ذلك، ظهرت في السنوات الأخيرة موجة جديدة من الوعي البيئي دفعت بعض الدول والشركات إلى تطوير مفهوم “السياحة البيئية”، الذي يهدف إلى تقليل الأثر السلبي للسياحة على الطبيعة، مع تعزيز استدامة الوجهات السياحية. لكن هل يمكن أن تكون هذه المبادرات فعالة بما يكفي لتغيير المشهد السياحي العالمي؟ وهل السياحة البيئية مجرد اتجاه تسويقي جديد أم أنها بالفعل جزء من الحل لمشكلة التدهور البيئي؟

رغم الفوائد الاقتصادية للسياحة، فإنها تُعد قطاعًا عالي التأثير على البيئة، إذ تسهم في 8% من إجمالي انبعاثات الكربون العالمية، وفقًا لتقرير صادر عن المنظمة العالمية للسياحة. يتسبب النقل الجوي وحده في 40% من البصمة الكربونية للسياحة، بينما تساهم السفن السياحية والفنادق في تفاقم استهلاك المياه والطاقة، إضافةً إلى زيادة النفايات البلاستيكية.

في العديد من الوجهات السياحية الشهيرة، مثل جزر المالديف وتايلاند، أدى التدفق الكبير للسياح إلى تآكل الشواطئ، وتلوث المياه، وتدمير الشعب المرجانية، مما دفع بعض الدول إلى اتخاذ قرارات صارمة، مثل إغلاق جزيرة “مايا باي” في تايلاند لعدة سنوات لإعادة تأهيلها بيئيًا بعد تعرضها لضرر شديد.

يقول الدكتور أحمد السالمي، الباحث في التنمية المستدامة، إن “السياحة غير المنظمة يمكن أن تدمر البيئات الطبيعية، خاصةً في الأماكن التي تعتمد على الأنظمة البيئية الهشة مثل الغابات الاستوائية والجزر المرجانية. التحدي الحقيقي هو كيف نحافظ على السياحة كمصدر للدخل دون التسبب في كوارث بيئية”.

ما هي السياحة البيئية؟

السياحة البيئية هي نهج جديد يهدف إلى جعل الرحلات السياحية أكثر استدامة، بحيث تقلل من التأثير السلبي على البيئة، وتساهم في الحفاظ على النظم البيئية. ترتكز السياحة البيئية على مبادئ أساسية، مثل:

تقليل الانبعاثات الكربونية: عبر تشجيع استخدام وسائل النقل الصديقة للبيئة، مثل القطارات والدراجات الهوائية، بدلاً من الطائرات والسيارات التقليدية.
حماية الموارد الطبيعية: من خلال الحد من أعداد الزوار في المناطق الحساسة بيئيًا، وتقنين استخدام المياه والطاقة في الفنادق والمنتجعات.
دعم المجتمعات المحلية: بحيث تعود أرباح السياحة إلى السكان المحليين، بدلاً من الشركات العالمية الكبرى، مما يعزز التنمية المستدامة.

في بعض الدول، مثل كوستاريكا وكينيا ونيوزيلندا، تم تبني السياحة البيئية كمحور رئيسي للقطاع السياحي، حيث يتم فرض ضرائب بيئية على الزوار، وتخصيص عائداتها لإعادة تأهيل المناطق الطبيعية التي تتأثر بالسياحة.

رغم التحديات، هناك العديد من النماذج الناجحة التي أثبتت أن السياحة البيئية يمكن أن تكون بديلاً مستدامًا عن السياحة التقليدية. من بين هذه الأمثلة:

كوستاريكا: وجهة رائدة في السياحة الخضراء
كوستاريكا تعد واحدة من أكثر الدول استدامة بيئيًا في العالم، حيث تعتمد على الطاقة المتجددة بنسبة 99%، وتخصص أكثر من 25% من أراضيها كمحميات طبيعية. تقدم البلاد برامج سياحية تعتمد على زيارة الغابات المطيرة بطريقة لا تؤثر على النظام البيئي، وتشجع على الإقامة في فنادق بيئية تعمل بالطاقة الشمسية وتستخدم مواد بناء مستدامة.

حديقة سيرينغيتي الوطنية في تنزانيا
في تنزانيا، يتم تطبيق نظام “السياحة المحدودة”، حيث يتم تحديد عدد معين من الزوار المسموح لهم بدخول المحميات الطبيعية سنويًا، لمنع التكدس والحفاظ على الحياة البرية. يتم فرض رسوم دخول مرتفعة، يتم استخدامها لإعادة تأهيل البيئة الطبيعية ودعم المجتمعات المحلية.

مشروع “السياحة الزرقاء” في المالديف
رغم شهرة المالديف بالسياحة الفاخرة، فإنها بدأت في تبني نهج جديد يسمى “السياحة الزرقاء”، الذي يركز على الحفاظ على الشعاب المرجانية وتقليل استهلاك الموارد المائية عبر أنظمة تحلية مياه صديقة للبيئة. بعض المنتجعات تعمل على إعادة زراعة الشعاب المرجانية لحماية الحياة البحرية من آثار السياحة المفرطة.

هل يمكن أن تكون السياحة البيئية بديلاً اقتصادياً؟

أحد التحديات الرئيسية أمام السياحة البيئية هو ارتفاع تكلفتها مقارنة بالسياحة التقليدية. بعض المسافرين قد لا يكونون مستعدين لدفع مبالغ إضافية مقابل السياحة المستدامة، مما يجعل التحول إلى هذا النموذج بطيئًا.

لكن في المقابل، يرى بعض الخبراء أن السياحة البيئية يمكن أن تكون أكثر ربحية على المدى الطويل، لأنها تعتمد على إطالة عمر الوجهات السياحية بدلاً من استنزافها. في بعض الدول، مثل نيوزيلندا وكندا، يتم تسويق السياحة البيئية كمنتج فاخر، حيث يتم جذب الزوار من الفئات القادرة على دفع تكاليف أعلى مقابل تجربة مستدامة.

في العالم العربي، لا تزال السياحة البيئية في مراحلها الأولى، لكن هناك بعض المبادرات التي بدأت في الظهور، مثل:

الإمارات: السياحة البيئية في محميات دبي وأبوظبي
أطلقت الإمارات مشاريع لحماية المحميات الطبيعية، مثل “محمية رأس الخور للحياة البرية”، حيث يتم تنظيم الزيارات لتقليل التأثير البيئي، مع فرض قواعد تمنع التلوث والتدخل البشري المباشر في الحياة البرية.

الأردن: السياحة البيئية في محمية ضانا
الأردن يُعتبر من الدول الرائدة في السياحة البيئية بالشرق الأوسط، حيث توفر محمية ضانا تجارب سياحية مستدامة تعتمد على الإقامة في أكواخ بيئية والاستمتاع بالطبيعة دون إلحاق الضرر بالبيئة.

المغرب: السياحة الجبلية في الأطلس الكبير
في المغرب، بدأت بعض القرى الجبلية في تقديم برامج سياحية تعتمد على الاندماج مع الطبيعة، حيث يتم تنظيم رحلات المشي لمسافات طويلة، والإقامة في منازل تقليدية تستخدم موارد طبيعية محلية.

هل السياحة البيئية مجرد اتجاه تسويقي؟

رغم التقدم الذي تحقق في بعض الدول، هناك انتقادات بأن بعض الشركات تستخدم “الاستدامة” كأداة تسويقية، دون القيام بإجراءات حقيقية لحماية البيئة. بعض الفنادق تدّعي أنها “صديقة للبيئة”، لكنها في الواقع لا تطبق سياسات حقيقية لتقليل الاستهلاك أو إعادة التدوير.

يؤكد هيثم الكواري، الباحث في السياسات البيئية، أن “هناك حاجة إلى وضع معايير دولية صارمة تضمن أن السياحة البيئية ليست مجرد شعار تجاري، بل نموذج حقيقي لتقليل التأثير السلبي للسياحة على الطبيعة”.
مستقبل السياحة البيئية: هل يمكن أن تكون جزءًا من الحل؟

مع تزايد المخاطر البيئية، يبدو أن التحول نحو السياحة المستدامة لم يعد مجرد خيار، بل ضرورة. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل سيقبل المسافرون والشركات السياحية بتغيير نماذجهم الاستهلاكية لتصبح أكثر استدامة، أم أن السياحة التقليدية ستظل تسيطر على المشهد؟

إذا استمر التدهور البيئي الحالي، فقد تجد بعض الوجهات السياحية نفسها في مواجهة كارثة تجعلها غير قابلة للحياة، مما يجعل تبني السياحة البيئية أمرًا لا مفر منه، سواء اليوم أو في المستقبل القريب.

error: Content is protected !!