Spread the love

يشكل التصعيد الأخير بين إيران وباكستان، على خلفية الضربة الصاروخية الإيرانية التي استهدفت مواقع في إقليم بلوشستان، نقطة تحول خطيرة في العلاقات بين البلدين. فإقدام طهران على تنفيذ هجوم داخل الأراضي الباكستانية، وما تبعه من إجراءات دبلوماسية صارمة من قبل إسلام آباد، يعكس مدى تعقيد المشهد الأمني والسياسي في المنطقة. وبينما تدافع إيران عن عملياتها العسكرية ضد جماعة “جيش العدل”، ترى باكستان في هذه الخطوة انتهاكاً صارخاً لسيادتها يستوجب الرد. فهل نحن أمام تصعيد طويل الأمد، أم أن المصالح المتشابكة ستفرض مساراً للتهدئة؟

إيران تعتبر جماعة “جيش العدل” تهديداً وجودياً، حيث تنشط هذه الجماعة المسلحة في إقليم سيستان وبلوشستان، وهي منطقة تعاني من اضطرابات أمنية متكررة نتيجة العوامل الطائفية والعرقية. لطالما اتهمت طهران إسلام آباد بالتراخي في ملاحقة هذه الجماعة داخل الأراضي الباكستانية، مما دفعها إلى تنفيذ عمليات عسكرية مباشرة داخل باكستان، في خطوة غير مسبوقة تحمل دلالات أمنية وسياسية بالغة.

هذه العملية لا تعكس فقط حرص إيران على ضرب جماعات مسلحة معادية، بل تحمل أيضاً رسائل استراتيجية لدول أخرى، خاصة مع قيام الحرس الثوري الإيراني بتنفيذ ضربات مماثلة في العراق ضد ما وصفه بـ”مقرات تجسس إسرائيلية”. عبر هذا التصعيد، تسعى إيران إلى إيصال رسالة واضحة مفادها أنها لن تتردد في استخدام القوة العسكرية ضد أي تهديد لأمنها القومي، حتى لو كان ذلك داخل أراضي دول الجوار.

جاء رد فعل باكستان سريعاً وحازماً، حيث أعلنت عن طرد السفير الإيراني واستدعاء سفيرها من طهران، إضافة إلى تعليق جميع الزيارات رفيعة المستوى بين البلدين. هذه الإجراءات تعكس مدى الغضب الباكستاني من هذا التصعيد، إذ اعتبرت إسلام آباد أن الهجوم الإيراني يمثل خرقاً واضحاً لسيادتها ويستوجب رداً قوياً.

أعلنت الحكومة الباكستانية أنها تحتفظ “بحق الرد”، لكن طبيعة هذا الرد لا تزال غير واضحة. هل ستكتفي إسلام آباد بالتصعيد الدبلوماسي، أم أن هناك احتمالاً لرد عسكري محدود، كما فعلت في السابق ضد التوغلات الهندية في كشمير؟

من المفارقات أن هذا التصعيد جاء في وقت كانت فيه العلاقات الإيرانية-الباكستانية تشهد تحسناً نسبياً، حيث بدأ البلدان مشاريع تعاون مشترك، وأجريا مؤخراً مناورات بحرية مشتركة. لكن هذه التطورات قد تتعرض لنكسة كبيرة إذا لم يتم احتواء الأزمة بسرعة.

يعد إقليم بلوشستان نقطة اشتعال مستمرة، حيث تعاني المنطقة من نزاعات مستمرة بين الجماعات المسلحة والقوات الحكومية في كل من إيران وباكستان. التصعيد الحالي قد يؤدي إلى تصعيد أكبر داخل الإقليم، ويزيد من تعقيد الوضع الأمني فيه.

لا يمكن إغفال البعد الجيوسياسي في هذا الصراع، إذ قد تجد الهند فرصة لاستغلال التوتر الإيراني-الباكستاني لصالحها. نيودلهي لطالما كانت على خلاف استراتيجي مع باكستان، وربما ترى في هذه الأزمة فرصة لإضعاف الموقف الباكستاني إقليمياً.

واشنطن وحلفاؤها الغربيون يراقبون التصعيد عن كثب، خاصة وأنهم يعتبرون إيران “دولة مارقة” بسبب تدخلاتها العسكرية في المنطقة. لكن في الوقت ذاته، لا ترغب الولايات المتحدة في اندلاع أزمة جديدة تزيد من تعقيد الأوضاع في جنوب آسيا، خاصة في ظل الحرب الروسية الأوكرانية والتوترات في الشرق الأوسط.

رغم حدة التصريحات، فإن كلاً من إيران وباكستان تعيان أن التصعيد العسكري ليس في مصلحتهما. لذلك، قد يلجأ الطرفان إلى وساطات دبلوماسية (ربما عبر الصين أو تركيا) لنزع فتيل الأزمة، خصوصاً أن العلاقات الاقتصادية بين البلدين قد تتضرر بشدة إذا استمر التوتر.

إذا قررت إسلام آباد الرد عسكرياً، فقد يكون ذلك عبر ضربات محدودة ضد مواقع “جيش العدل” داخل أراضيها، دون أن تستهدف المصالح الإيرانية بشكل مباشر. هذا السيناريو قد يؤدي إلى تصعيد أكبر، لكنه يظل خياراً قائماً في حال لم تتراجع إيران عن موقفها.

رغم خطورة الموقف، فإن نشوب حرب بين إيران وباكستان يبقى احتمالاً ضعيفاً، لأن كلاً من البلدين يدركان أن الدخول في مواجهة مفتوحة سيؤدي إلى عواقب وخيمة، خاصة مع امتلاك باكستان للسلاح النووي.

التوتر بين إيران وباكستان يشكل اختباراً جديداً لاستقرار جنوب آسيا، ويعكس مدى تعقيد التحديات الأمنية في المنطقة. وبينما تبدو الأزمة قابلة للاحتواء عبر الوسائل الدبلوماسية، فإنها تكشف عن هشاشة العلاقات بين البلدين، ومدى تأثرها بالتوترات الإقليمية والمصالح المتضاربة. الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت هذه المواجهة مجرد أزمة عابرة، أم أنها بداية لمرحلة جديدة من التوترات بين البلدين.

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!