يتزايد الجدل حول النشاط الروسي المتصاعد في ليبيا وإفريقيا، في ظل تحذيرات غربية متكررة من أن موسكو تسعى لترسيخ نفوذها العسكري والاقتصادي في المنطقة لتحقيق أهداف جيوسياسية تتجاوز مجرد حماية المصالح الروسية، لتشمل تهديد استقرار أوروبا والتأثير على شرايين التجارة العالمية. يأتي هذا وسط تكثيف التقارير التي تشير إلى أن روسيا تعمل على توسيع وجودها في ليبيا عبر دعم المشير خليفة حفتر، وتعزيز حضورها العسكري في منطقة الساحل، ونشر قوات شبه عسكرية تحت مسمى “الفيلق الإفريقي”.
لكن، ما هي الأبعاد الحقيقية لهذا التمدد الروسي؟ وما تداعياته على مستقبل ليبيا والقارة الإفريقية وأوروبا؟ وما الردود المتوقعة من القوى الغربية وحلف الناتو؟
لطالما كانت ليبيا ساحة صراع دولي مفتوحة منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، إلا أن ما يميز المشهد الحالي هو الدور الروسي المتزايد، والذي يهدف إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية:
وفق التقارير الغربية، تخطط موسكو لإنشاء قاعدة بحرية دائمة في ميناء طبرق، مما يمنحها موطئ قدم استراتيجي في شرق البحر المتوسط، الأمر الذي من شأنه أن يخلق تهديدات مباشرة للأسطول السادس الأمريكي في نابولي، كما يسمح لروسيا بمراقبة وتقييد حركة السفن التجارية الأوروبية في المنطقة.
يُنظر إلى المشير خليفة حفتر باعتباره الحليف الأساسي لروسيا في ليبيا، إذ يوفر لها الغطاء السياسي والعسكري لتعزيز نفوذها في الشرق الليبي، مقابل دعم عسكري ولوجستي يمكنه من ترسيخ سلطته ضد الحكومة المدعومة من الغرب في طرابلس.
تواجه روسيا ضغوطاً اقتصادية متزايدة بسبب العقوبات الغربية، ولذا تسعى لاستغلال الموارد الطبيعية الليبية، من النفط والغاز والمعادن، لتمويل مجهودها الحربي في أوكرانيا.
تشير التقارير إلى أن روسيا توظف مرتزقة من ليبيا ودول الساحل الإفريقي للقتال في صفوفها في أوكرانيا، وهو ما يخفف من الخسائر البشرية في صفوف الجيش الروسي الرسمي.
يرى المراقبون أن أحد أخطر تداعيات التوسع الروسي في ليبيا هو القدرة على التحكم في خطوط الملاحة الدولية، عبر نشر قواتها في طبرق وطرطوس السورية. يمكن لموسكو فرض ضغوط على السفن التجارية الأوروبية وتعطيل تدفق الطاقة والتجارة بين الشرق الأوسط وأوروبا، خاصة إذا ما اتسعت الأزمة الروسية-الأوروبية في المستقبل.
تشير تحليلات إلى أن روسيا قد تستخدم ملف المهاجرين كأداة ضغط جيوسياسية، عبر التنسيق مع حفتر لإغراق أوروبا بالمهاجرين غير النظاميين، ما يزيد من زعزعة الاستقرار الداخلي لدول الاتحاد الأوروبي ويؤجج الأزمات السياسية فيها.
تعتمد فرنسا وإيطاليا على استمرار نفوذهما في إفريقيا للحفاظ على مصالحهما الاقتصادية والأمنية. لذا، فإن التدخل الروسي في ليبيا ودول الساحل مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو يشكل تحدياً مباشراً لهيمنة أوروبا التقليدية في هذه المناطق، وهو ما دفع باريس مؤخراً إلى تقليص وجودها العسكري في الساحل الإفريقي بعد سلسلة انقلابات مدعومة من روسيا.
يرى معهد الشرق الأوسط في واشنطن أن القوى الغربية بصدد تشديد العقوبات على الكيانات الروسية العاملة في إفريقيا، بما في ذلك الشركات التي تتعاون مع الفيلق الإفريقي. كما ستعمل الولايات المتحدة على تقويض العلاقات بين موسكو وحفتر عبر تقديم بدائل سياسية وعسكرية أكثر جاذبية للشرق الليبي.
قد تلجأ واشنطن والناتو إلى زيادة الدعم لحكومة طرابلس، سواء عسكرياً أو سياسياً، كوسيلة لمواجهة التوسع الروسي في الشرق.
أمام تزايد الحضور الروسي في النيجر ومالي وليبيا، تعمل الولايات المتحدة على تطوير استراتيجية جديدة لحماية مصالحها في إفريقيا، وهو ما سيتم بحثه خلال اجتماع الناتو المقبل في يوليو.
ما يحدث في ليبيا ليس مجرد تنافس نفوذ عادي، بل يعكس صراعاً جيوسياسياً واسع النطاق بين روسيا والغرب، حيث تسعى موسكو إلى ترسيخ وجودها العسكري والاقتصادي في إفريقيا وشرق المتوسط، بينما تحاول أوروبا والولايات المتحدة احتواء هذا النفوذ بأي ثمن.
يواجه حفتر تحدياً حقيقياً في اختيار تحالفاته، فمن جهة، يعد الدعم الروسي ضمانة عسكرية قوية لاستمرار نفوذه في الشرق الليبي، ومن جهة أخرى، فإن الضغوط الغربية قد تدفعه لإعادة النظر في تحالفه مع موسكو، خاصة إذا تلقى إغراءات سياسية أو اقتصادية من الغرب.
مع تزايد التقارير حول إمكانية إنشاء قواعد روسية في ليبيا، وتصاعد المخاوف الغربية من السيطرة الروسية على البحر المتوسط، يبدو أن ليبيا قد تصبح مجدداً ساحة صراع دولي تشبه الحرب الباردة، حيث تتنافس القوى العظمى على النفوذ في منطقة شديدة الأهمية استراتيجياً.
في ظل التصعيد الروسي، والمخاوف الغربية، تبقى ليبيا محوراً رئيسياً في التنافس الجيوسياسي الدولي. موسكو تسعى لترسيخ نفوذها عبر دعم حفتر، وإنشاء قواعد عسكرية، واستغلال الثروات الطبيعية، بينما ترى أوروبا والولايات المتحدة أن هذا النفوذ يشكل تهديداً استراتيجياً طويل الأمد لمصالحهما.
التساؤل الأهم يبقى: هل ستدخل ليبيا مرحلة جديدة من الصراع بالوكالة بين روسيا والغرب، أم أن هناك فرصة حقيقية لإنهاء النفوذ الخارجي والوصول إلى حل سياسي شامل؟
بغض النظر عن السيناريوهات المحتملة، تبقى ليبيا ساحة مفتوحة لمعارك النفوذ بين القوى الدولية، حيث تتشابك المصالح الجيوسياسية، ويظل الاستقرار حلمًا مؤجلاً وسط زحام الحسابات الإقليمية والدولية.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ